لندن: «الشرق الأوسط» عندما صرخت لايدي ماكبث في مسرحية شكسبير الشهيرة، بنفس العنوان، وهي تنظر إلى يديها الملطختين بالدم، قائلة إن «كل عطور الشرق لا يمكن أن تخلصها من رائحتهما أو ترطب ملمسهما بعد اليوم»، كانت تعرف أن الورد والياسمين واللبان والأخشاب الثمينة والعود كلها خلاصات لها قوة وسحر لا يتبخران بسرعة، وأن العالم العربي منبع لا ينضب من هذه الخلاصات والخلطات. ما لم تكن تعرفه في ذلك الوقت أن هذه الخلاصات ستعطر العالم أجمع في القرن الواحد والعشرين، وتصبح موضة يقبل عليها الكبير والصغير من كلا الجنسين. والسبب أن الغرب توجه بكل جوارحه إلى الشرق بحثا عن جديد يغذي به الحواس ويعود عليه بالربح في الوقت ذاته. ففي عام 2006 أشارت التوقعات إلى أن الشرق الأوسط وبلدان أفريقيا ستصبح من أكبر أسواق العطور في العالم. وفي عام 2012 تأكدت هذه التوقعات بدليل أن مبيعاتها تضاعفت بالمليارات. وهذا يغني عن القول إن زبون منطقة الشرق الأوسط مهم جدا، مما يستدعي التوجه إليه بشكل مباشر. وبما أن أهم عنصر في العطر أنه يوقظ ذكريات سعيدة وأحاسيس دفينة من مرحلة الطفولة أحيانا، فقد كان لا بد أن يظهر العود إلى السطح كواحد من أهم المكونات العصرية. لكن ما لم يتوقعه صناع الموضة، أنهم بالتوجه إليه اكتشفوا خلاصات جديدة لم يكونوا يتخيلون وجودها أو جمالها من جهة، كما استقطبوا الزبون الغربي الشاب تحديدا، من جهة أخرى، لأنه عانق هذه الموجة الجديدة من نسمات الشرق بعد طول بحث وتوق لشذى مختلف يميزه عن أقرانه. وهكذا، بعد أن كنت في الماضي، ما إن تذكر أمام الرجل الغربي عطرا شرقيا حتى يبدي تخوفه من قوته التي لا تدوخه وحده بل كل المحيطين به، أصبح الآن لا يشبع منه ويريد المزيد. أمر لم تتأخر عنه بيوت أزياء وشركات تجميل عالمية دخلت لعبة الخلطات الغريبة بكل ما أوتيت من خبرة وثقل، بدءا من «ديور» إلى «جيورجيو أرماني»، «توم فورد»، «جو مالون»، «كنزو» وطبعا «غيرلان». فهذه الأخيرة، كما يعرف الجميع، تربطها بالشرق علاقة معروفة وحميمة تمتد لعقود. ففي عام 1925 ابتكر جاك غيرلان عطر «شاليمار»، الذي كان ثورة في زمنه، لتجسيده روح الشرق بامتياز، وإن كان أيضا تعبيرا عن حركة من الاستشراق ظهرت في العشرينات من القرن الماضي وركبها الكثير من المبدعين، الذين نذكر منهم أيضا المصمم بول بواريه. فقد جسد هذا الأخير عشقه للشرق من خلال أزياء غنية بالتطريزات والألوان الصارخة وأمتار سخية من الأقمشة المترفة، بينما عبر جاك غيرلان عن هذا العشق في روائح محبوسة في قوارير مصنوعة من زجاج لاليك، وتحبس الأنفاس في الوقت ذاته بدفئها وغموضها. تقول كايتي باكريك، المتخصصة في صناعة العطور وتاريخها، بأن عودة اهتمام الغرب بمكونات عطور قديمة مثل اللبان والمر والعود بدأ منذ سنوات، لا تعود إلى الحالة السياسية أو الربيع العربي التي يتابعها العالم، بل إلى الاهتمام المتزايد بكل ما هو مميز وفريد. فالتخمة التي سببها الكم الهائل من العطور المتشابهة التي تطرح في الأسواق في كل موسم، خلقت حاجة لأنواع متخصصة أو على الأقل بخلاصات جديدة ومختلفة. وكلما كانت نادرة ومن ثقافات بعيدة، كان هذا عز الطلب. والطريف أنه للتعبير عن هذا التميز، كان لا بد من خلق أسماء تدخل فيها ولو كلمة عربية، فاز فيها العود بالنصيب الأكبر، بينما ذهب البعض الآخر إلى أبعد من ذلك وكتابتها بالحروف العربية، مثل ما قامت به شركة «أراميس» أخيرا ودار «غيرلان» في عطرها «صحارى الشرق». فهذه الشركة لا تزال بعد أكثر من قرن من الزمن تعترف بأنه «لا وجود للعطور الخاصة والمدهشة من دون الشرق». أنف الدار، تييري واسر، وهو واحد من أكثر صناع العطور المبدعين يقول عن «صحارى الشرق»، المجموعة المكونة من ثلاثة عطور إن كل واحد منها يحكي قصة «تتأرجح بين الخيال والواقع، انطلاقا من الصحراء التي تخضع الناس لقوتها غير المحدودة وجمالها اللامتناهي والمتمرد، كما تستقي روحها من الواحات الريفية التي يمكن اعتبارها واحات راحة وسكينة». «عود تيريفك» * في عام 2012 قدمت Terry de Gunzburg مجموعة مكونة من خمسة عطور نسائية لكل منها أريج خاص. ولربيع 2013 اختارت مبتكرته جين ميشيل سانتوريني أن يكون العود الملطف والراتينجي البطل الأقوى، إلى جانب نبات البرغموت الكالابري والتوت الأحمر والزنبق والزعفران والكمون، فضلا عن الصندل وشجر الأرز ونبات البردي وعشب البتشول الهندي. كانت الفكرة منذ البداية أن يكون العطر برائحة غنية تدغدغ كل الحواس، وهذا ما كان لها. يتوفر هذا العطر حصريا في محلات «سلفريدجز» * «أودوموازيل جيفنشي خشب العود» «أودوموازيل جينفشي خشب العود» Eau demoiselle de Givenchy bois de oud عطر آخر يجسد عشق «غيرلان» للشرق، الأمر الذي ترجمته هنا في قاعدة ترتكز على خشب نادر يمتزج بالبخور والعنبر وعبق الورد التركي وزهر البرتقال. * «فور هور أمبر ماسك» من «نارسيسو رودريغيز» الشرق بالنسبة للمصمم الأميركي نارسيسو رودريغيز يعني المسك والعنبر مع رشة عود طبعا، وهذا ما قدمه هذا العام في عطره الجديد «فور هور أمبر ماسك» For Her Amber Musc. أجمل ما فيه أنه يلعب على الظل والضوء، أي الرقة والقوة، وقال المصمم إنه «أكثر من عطر.. إنه رمز للقيم المشتركة» التي تجمعه بالمرأة الشرقية وإعجابه بالصفات التي تتحلى بها، لهذا كان من الطبيعي أن يقدم لها عطرا خاصا جدا. * صحارى الشرق هذه الثلاثية تبدأ بـ«روز ناكري دو ديزير» (Rose Nacree Du Desert) الذي تفوح منه خلاصات العود والورد الفارسي، وتمتد في عطر «إنسانس ميثيك دوريان» (Encens Mythique D’Orient) وقوامه عنبر ممزوج بالزعفران والمسك والباتشولي. أما الثالث فهو عطر «سونغ دان بوا ديتيه» (Songe D’un Bois D’Ete) الذي ما إن تفتح قارورته حتى ينبعث منها شذى الباتشولي وخشب الأرز والمر وباقة من التوابل والأخشاب الثمينة. تأتي هذه المجموعة لتعزز مجموعة «إكسكلوسيف كوليكشينز» Exclusive Collections الفاخرة والمتوفرة فقط في نقاط بيع «غيرلان» Guerlain. * «صحارى نوار» استلهمه المصمم توم فورد من الشرق الأوسط وجمال شبه الجزيرة، كما يقول: «إنه غني ومترف يتضمن نغمات من اللبان.. فقد اكتشفت أن العطر في الثقافة الشرقية له أهمية كبيرة، وكلما كان مترفا ومميزا تم تقديره أكثر.. فالعرب أكثر من يقدرونه ويفهمون أسراره، كما أن معظمهم إن لم نقل كلهم يستعملونه بطريقة أو بأخرى، ودائما تبدو طبيعية وجزءا من أسلوب الحياة». ويتابع: «(صحارى نوار) هو ترجمتي الخاصة لهذا الإرث.. فهو عميق وقوي لكن أيضا رقيق وساحر». توم فورد رأى أن يكون اللبان أهم مكون فيه، لما له من تاريخ متجذر في الثقافة العربية وتجارتها من جهة، ولعلاقة الإنسان العربي به على مدى التاريخ من جهة ثانية. طبعا مزجه بمكونات أخرى مثل الياسمين المصري والورد المغربي والفانيل وخشب الأرز والقرفة والعنبر وغيرها زاد من خصوصيته وحقق توازنا آسرا بين العصري والأصيل. * «مادلي عود» من «كنزو»: ربما تكون أول مرة تعانق فيها الدار هذه الموجة الشرقية، وهي المعروفة بباقتها الوردية الغنية عموما. لكنه توجه في الوقت ذاته ليس غريبا تماما على دار أزياء تأسست على مفهوم السفر ومعانقة كل الثقافات. وفي هذا العطر نستمتع برحلة سفر إلى الشرق ولقاء بثقافة جديدة وغنية بمواد نادرة يتآلف فيها الغموض والإثارة. ومن هذا اللقاء ولد هذا العطر بعبير منعش تتخلله نكهة خشبية وتوابل دافئة وباقة من الأزهار، وطبعا هناك العود الذي يستمد منه العطر اسمه. * «بيلا بيليسيما» إيسانس أوف عود Bella Bellissima Essence of oud استوحى قصته من أسرار الأرض العربية القديمة.. أرض اكتشاف الملاحم الأوديسية وحكايات ألف ليلة وليلة فيما يخص الحب والمغامرات. في قلب كل قارورة عطر من خلاصات العود، وتحديدا خلاصات زيت خشب العود النقي، بتركيبته الفاخرة التي أضيفت إليها باقة من الزهور الناعمة، والصمغ الاستوائي، والأخشاب العطرية والتوابل النادرة، التي خلطت لتكون عطرا مركزا يبقى لفترة طويلة. يتوفر هذا العطر حصريا في محلات «سلفريدجز Selfridges» بشارع إكسفورد لندن * «الأميدا» من روبرت بيغيه من روبرت بيغيه يطل علينا عطر «ألاميداAlameda » الذي يستحضر لنا بدوره أجواء عربية لكن هذه المرة في ربوع الأندلس وقصر الحمرا تحديدا بحدائقه الغناء التي تتعانق فيها الأزهار مع أعشاب البرية التي جلبها العرب معهم، مع لمسة عنبر تضفي عليه مسحة ملكية. نعم إنه عطر قوي وغني لكنه أيضا راق ومميز بفضل البتشولي والفواكه الحمضية التي خلقت توازنا رائعا يتغلغل في الحواس ويأخذ صاحبه إلى عوالم ألف ليلة وليلة. يتوفر حصريا في «سيلفريدجز Selfridges» * «بلاك روز عود» من تريش ماكفوي تريش ماكفوي، أيضا شدها سحر الشرق وعوده. سحر يتجسد في عطر «بلاك روز عود» Black Rose Oud الذي يمكن القول إنه مزيج بين العصري والفخم، بين الراقي والمبالغ فيه. والمقصود بهذه المبالغة ليس سلبيا، بل العكس، فهي مبالغة تعتمد على التنويع في الخلاصات التي تدخل فيه ومن شأنها أن تضفي عليه سحره. من ورد باكارا الأسود النادر والتوابل الشرقية والأخشاب المثيرة مثل خشب الصندل والمسك والباتشولي والفانيلا إلى الفواكه المتنوعة من أوراق التوت الطازجة إلى الليتشي وزعفران اليابان والفلفل الأسود وهلم جرا من الزيوت الخالصة التي تبرر سعره. يتوفر أيضا في «سيلفريدجز» Selfridges * تولة Tola تولة Tola. ما إن تتطلع إلى المجموعة وتقرأ أسماء كل واحد منها، حتى يغمرك شعور بأن المسألة ليست مجرد اختيار عطر يروق لك ويصاحبك طوال الوقت، بقدر ما هي رحلة غوص في الثقافة الشرقية بقصصها المشوقة وموادها المترفة. ولأن المتعارف عليه عموما أن العطر يمكن أن يوقظ ذكرى بعيدة عاشها الإنسان في الطفولة أو قصة حب أو رحلة أمل، فإن كل عطر يتمتع بخلاصات مختلفة، تقوم بهذه المهمة وتجعل كل من يشمه يشعر بأنه ابتكر له خصيصا. مثلا هناك مسك بيجام Misk Begum الذي يروي قصة فتاة يجتاحها شعور بأنها أميرة تجول وتصول في قصر فخم مزين بالفسيفساء وتحيط به حدائق تفوح منها روائح زكية تختلط برائحة المسك، مما يمنحها السعادة والثقة. وعطر «أنبار» Anbar الذي يروي حكاية شاب يرمي شباكه في البحر ليصطاد السمك لكن تخرج له في المقابل حورية بحر تخطف قلبه وهكذا تتوالى القصص مع كل عطر وكل تركيبة يتضمنها. يتوفر في محلات «سيلفريدجز Selfridges» * همسات عطرية * العطر حالة شخصية محضة، لهذا يجب الانتباه جيدا عند اقتنائه. فما يناسب صديقا عزيزا قد لا يناسبك بالضرورة، والسبب أنه يتفاعل مع نوع البشرة ولونها ليعطي في كل مرة رائحة مختلفة. - صناعة العطور مربحة وتقدر بأكثر من 10 مليارات جنيه إسترليني في العالم، مما يوفر لها ميزانية هائلة للإعلانات والحملات الدعائية. وهذا يعني بلغة الأرقام أنها مهما صرفت من أموال، لا تخسر، بل العكس تماما. فصور النجوم والنجمات تشجع على الاقتناء، لا سيما إذا كانت الحملة مصورة بطريقة سينمائية مثيرة. ومع أنه لا مانع في هذا إلا أنه يفضل تحكيم العقل واختيار عطرك الخاص ببعض الموضوعية، فما قد يناسب كيرا نايتلي قد لا يناسب كريستين ستيوارت، وما قد يناسب سايمون بايكر قد لا يناسب جاستن تمبرلايك. أي أنه قد لا يناسبك بالضرورة. * بيوت الأزياء تحديدا تعرف أهمية العطر ولا يمر موسم من دون أن تطرح واحدا جديدا يعزز مكانتها ويدر عليها الملايين، التي تستفيد منها للتوسع أو تضخها في قطاع الأزياء مثلا. فبينما قد يبقى جاكيت من «شانيل»، أو فستان من «ديور» أو بنطلون جينز من «بالنسياجا» أو بدلة من «توم فورد»، حلما بعيد المنال للغالبية من سكان العالم، فإن عطرا من أي من هذه البيوت يشبع تلك الرغبة الملحة في امتلاك شيء ولو صغيرا يحمل اسمها ويدخلهم عالم الأناقة والتميز من أوسع الأبواب. * يذكر أن العرب هم أول من أدخل ثقافة العطر إلى أوروبا عبر الأندلس من خلال تصدير أنواع مختلفة من الورود والنباتات المعطرة. وسرعان ما تزايد اهتمام الأوروبيين، وبدأوا يتفننون في تصنيعه خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ومع الوقت برعوا فيه إلى حد أنه أصبح صناعة تدر عليهم المليارات. ولا يزال العود والمسك والعنبر من أهم المكونات التي يعودون إليها بين الفينة والأخرى، مرة يزيدون من جرعتها ومرة يخففون منها لكنهم في كل مرة يعرفون أنها وصفة ناجحة.