أضع رواية عبد الله صخي جانبا، بعد أن أتممت قراءتها، وأجدني أبحث عن مثيلات بطلة الرواية، مكية الحسن، الأم العراقية الفقيرة، ذات الكرامة التي تفتت الصخر. ماذا فعلت سنوات القهر والرعب والضنك بأولئك النساء؟ «دروب الفقدان»، وقبلها «خلف السدة»، ليست من وحي الخيال بل هي تسجيل أمين ومؤثر وبليغ لمصائر الريفيين الذين تركوا أراضيهم واحتموا بخاصرة العاصمة لعلهم يجدون رزقهم فيها. أقاموا في منطقة خلاء كانت تسمى «خلف السدة»، وهي المرتفع الترابي الذي كان الوالي العثماني ناظم باشا قد أمر بتشييده، أوائل القرن الماضي، لحماية بغداد من فيضان دجلة. لقد عاشوا في «صرائف» وزرائب دون مستوى البشر، إلى أن قرر عبد الكريم قاسم، أول رئيس للوزراء في العهد الجمهوري، أن يوزع عليهم أراضي ومنحا لبناء بيوت تتوفر فيها أبسط شروط العيش الكريم. من وراء السدة انتقلت مكية الحسن وزوجها والأولاد إلى مدينة الثورة، الضاحية التي صار اسمها، في ما بعد، مدينة صدام، ثم مدينة الصدر. تسميات تتبدل مع تقلب الحكام وتبدل اتجاهات الريح. ومع تنقلات تلك الأسرة يأخذنا الروائي إلى الأحلام البسيطة لأفرادها، وإلى البيوت المرتجلة من الطين والسعف والكرتون، وإلى الأزقة الضيقة وأسواق الفلاحين والمواسم الدينية وأعين رجال الأمن. إنه يثق بنا، قرائه، ويأتمننا على الحب الذي سلب لب علي سلمان، ابن مكية وقرة عينها الوحيد بين شقيقاته، ذاك الذي طلبته من الأولياء وربته على قيم أدركتها بالفطرة. لكن الصراع السياسي أخذ علي من أمه وألقاه في السجون. قصة عراقية عادية في ظاهرها، تجرح القلب لأن ناعور الدم ما زال يدور، منذ نصف قرن، ويسلب الأمهات أعز الأبناء وأجملهم. علي سلمان كان قد ذاق شهقة الحب الأول مع بدرية، التي يسميها «بدراو»، محوّرا الحروف بحيث تصبح مثل سحبة التنهيدة من الصدر. إنها الصبية التي فتّحت عينيه على شيء يشبه السحر، قادر على أن يخطفه من الفقر والرتابة وغبار المدينة ويرفعه سحابة خفيفة تبتسم للشمس. أين مثيلات «بدراو» والحبيبات المؤرقات اللواتي أطللن علينا من الروايات، يوم كان حفيف اليد هو أقصى الآمال؟ يكتب عبد الله صخي بلغة أنيقة حيية تبتعد عن الصخب. إنه واحد من العراقيين الذين أصدروا مئات الروايات في السنوات القلائل الأخيرة وكأنهم يسابقون الزمن للقبض على الإعصار. إن لكل منهم جانبه الخاص من الحكاية المتوحشة التي ترسم مجتمعا تداعى ووطنا يسلب في كل لحظة. أليست نكتة ماسخة تلك التي تجعل صفة «الوطن السليب» تنطبق على العراق، بعد أن كانت محجوزة لفلسطين؟! آخذ ورقة وأسطّر عليها أسماء كل تلك الروايات التي لا تصل إلى أيدي قراء كثيرين ولا ينتبه لها النقاد بما يكفي. أبحث عن أسماء مكية الحسن وشبيهاتها من الأمهات الباسلات، عن بدراو ونادية إسماعيل وبلقيس وإقبال خليل.. وكل نساء الرواية اللواتي تعاركن مع أقدارهن، عن علي سلمان الذي أراد أن يتعلم العزف ويصبح مطربا في الإذاعة، لكن الرماد تراكم على حنجرته! وكل هذه الروايات البلاسم، لن تصنع المعجزات، لكنها تنطق بما يجب أن يقال وتداوي جرحا صغيرا لبلد ما زال ينزف مثل فيضان ما قبل سدة ناظم باشا.