على رغم إن المخرج الياباني كور-إيدا هيروكازو لا يُحيط عَمله بالتكتم عادة، ويُجيب عن تساؤلات الإعلام، بخاصة في تفصيله الأداء المبهر للممثلين الأطفال في أفلامه، الا إن هذا الجانب ما زال يُثير مزيداً من الأسئلة، حتى يبدو أحياناً إن المخرج كلما أسهب في الشرح، توسعت المتاهة أكثر. وهو بهذا يُشبه كثيراً مايك لي عندما يتحدث عن أسلوبه الخاص. فالإنكليزي صاحب «أسرار وأكاذيب» اختار لمسيرته السينمائية أن لا تكون محكومة بسيناريوات جاهزة، وفضل بدلاً عن ذلك العمل المشترك مع الممثلين، للوصول الى «تفاصيل» و«جوهر» الشخصيات التي يلعبونها على الشاشة، في عملية تفاعل توليّ ثقافة الممثل وتفانيه أهمية أساسية. لكن ما يبدو وكأنه طريق واضح، هو في الواقع سلسلة عمليات مُعقدة. فأين يبدأ دور المخرج ومتى ينتهي؟ وما هي حدود الارتجال؟ في لقاء مع «برنامج الفيلم» الإذاعي لمحطة هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) الرابعة، تحدث المخرج الياباني مجدداً عن عمله مع الأطفال، والمناسبة كانت عرض فيلمه الأخير «من شابه أباه» في عدد من الدول الأوروبية، فبيَّن كيف يمنح فسحات شاسعة من الحريات لممثليه الأطفال للقيام بما يرونه مناسباً، مؤكداً إن السيناريو الأصلي ليس مهماً كثيراً لهؤلاء. هذا التفسير يكون مُقنعاً لأفلام سابقة للمخرج، والتي تجاوز أعمار الأطفال فيها العاشرة بقليل، حيث يُمكن أن يقوم هؤلاء بابتكار حوارات أو لغات جسدية مناسبة للمشاهد التي يقدمونها. فيما لم يتجاوز سن ممثلي فيلمه الأخير السادسة من العمر. لذلك يغدو من الصعب تَقبل تفسير المخرج، ليبقى «السِحر»، الذي يرافق حضور الأطفال في سينما هذا المخرج دون تفسيرات مرضية في الوقت الحاضر. تتراوح مسيرة هيروكازو السينمائية، بين أفلام يكون الأطفال فيها محركو الحوادث، لتتبع الدراما قصصهم فيما ينسحب «الكبار» الى الخلفية، وأفلام اخرى يكون «الأطفال» مدخل لعالم البالغين. ينتمي فيلم «من شابه أباه»، والذي فاز بجائزة التحكيم في الدورة الأخيرة لمهرجان كان السينمائي، الى النوع الثاني، رغم المساحتين الزمنية والدرامية المهمتين لحضور الأطفال على الشاشة، وككل أفلام المخرج السابقة. الفيلم الأخير يختلف كثيراً عن فيلم المخرج السابق «أنا أتمنى»، والذي يروي حكاية شقيقين أُجبرا على العيش في مدن مُختلفة بعد طلاق الوالدين، ثم محاولات الشقيقين إصلاح عالم «البالغين» المُعقد، بما تيسر لهما من طرق. ركز الفيلم ذاك على الشقيقين، حتى إن الشخصيات الأخرى والأمكنة، بدت وكأنها مرّت عبر موشور الطفولة لأبطال الفيلم، او أصدقائهم في المدرسة. بعد مشاهد افتتاحية عدة تُعرف بشخصيات فيلم «من شابه أباه»، يصل الأخير الى واحد من مشاهد نصفه الأول المفصلية: أسرتان شابتان تجتمعان في المستشفى الذي شهد ولادة ابنيهما، والمناسبة، هو لقاء نظمته إدارة المستشفى للاعتذار عن خطأ جسيم ارتكبته بتبديل طفلي العائلتين بعد ساعات من ولادتهما قبل ستة أعوام. الصدمة ستكون كبيرة، لكن الفيلم ينطلق من هذه المأساة الشخصية، ليمر على ثيمات عدة، واحدة منها عن الطبقية في المجتمع الياباني، فمُعيل إحدى الأسرتين، هو مدير ناجح، يملك شقة فخمة، وفيما تنتمي الأسرة الأخرى، الى الطبقة العاملة. وإذا كانت موضوعة الطبقية ستأخذ حيزاً مهماً من الفيلم، الا إنها هي الأخرى ستكون مدخلاً لفهم قصة الوالد الثري، والذي يملك قصته وتاريخه الشخصي، اللذين سيفسران بروده العاطفي تجاه ابنه وزوجته والحياة بشكل عام. ما يفعله المخرج في كل واحد من أفلامه، هو اهتمامه بتقديم تفاصيل صغيرة من الحياة اليومية لشخصياته وتمهله في تقديم القصة. يأخذ التقديم نصف وقت الفيلم تقريباً، ليتبعه النصف الآخر، الذي وبسبب ذلك التقديم المُحكم، سيملك قوته العاطفية الكبيرة. المخرج يتنقل بين المشاهد المتوسطة والمقربة، فالكاميرا ستقترب من الأبطال أكثر في النصف الثاني من الفيلم. ويبتكر زوايا غير مألوفة لوصف ما تمر به الشخصيات. كالمشهد الذي تكرر لزوجة الشاب الغني، وهي ترافق ابنها بالعاطفة وليس بالدم إلى ملعب صغير للأطفال قرب بيتهم، الكاميرا ستصورهم من الأعلى، بعلوّ الهموم التي كانت تثقل قلب الزوجة الشابة. كل واحدة من الشخصيات ستحظى بفرصتها على الشاشة، حتى الأب العامل، سينتفض في مشهد شديد التأثير، عندما يشعر بالمهانة من عرض قدمه له الأب الغني. أما الطفلان، موضوعا القصة والخلاف، فيبدوان، في النصف الأول من الفيلم ، كأقرانهما في السن، محيران ..، انهما في ذلك العمر الذي ليس من المعروف بشكل مؤكد، إذا كانا قد بدآ فيه بالتعرف على تعقيدات الحياة وألمها. في النصف الآخر في الفيلم، سيكبر دوراهما، ويحددان بشكل كبير اتجاه الأحداث في الحكاية. والفيلم سيركز هنا على شخصية الأب الغني. هو الوحيد الذي سيمر عبر تحولات درامية عديدة، ويُرغم على مواجهة الماضي، ماضيه الشخصي مع عائلته، والذي حمله بتعقيده وثقله إلى حياته الزوجية وأبوته. كما إن سؤال: الدم أم الحب؟ والذي يواجه العائلتين، سيحمل معاني مضاعفة لشخصية الشاب الغني.