عندما يأتي الحديث عن التعليم تكاد لا تجد أحدا لا يشتكي من سوء التعليم في بلادنا، والشاكون غالبا، لا ينطلقون من مرجع علمي وإنما هم يتخذون من قيمهم ورؤيتهم الخاصة نقطة انطلاق لهم فيجعلونها مرجعهم الأول والأخير. وهنا تكمن مشكلة التعليم، فمن يتأمل بعض أوضاع التعليم التي يشتكي منها الناس يلحظ سيطرة ثقافة المجتمع على التعليم، وتحكمها في توجيه دفته، فما تقره ثقافة المجتمع واعتاده الناس يظهر منعكسا على صفحات التعليم ممارسا داخل فصول المدارس. فمثلا، لأن ثقافة المجتمع ثقافة تمجد العادات والتقاليد وتنفر من كل ما يبدو فيه مخالفة لذلك وخروج عليه، فإن التعليم الذي يتلقاه الطالب في الفصل قائم على التقليد والاتباع لما يردده المدرس، وما يقوله الكتاب المدرسي، والويل لمن يخرج عن ذلك فيجيء بشيء جديد مختلف. ولأن ثقافة المجتمع ثقافة تؤمن أن التعلم يحدث بالمشقة ولا يحدث بالمتعة، فإنها ترى في حصص اللعب الموجه أوترك حرية الحركة للطالب داخل الفصل، أمرا لا يحقق التعلم الجيد، فيتبارى المعلمون داخل الفصل في شد وثاق حركة طلابهم، فلا شرب للماء في الفصل، ولا حركة فوق المقعد ولا محادثة مع زميل، ولا نكتة تطلق ولا تعليق يقال، وإنما هو سكون مطبق، وعبوس مطلق. فالقاعدة التقليدية تؤكد أن من أراد بلوغ المجد (لابد أن يلعق الصبرا). ولأن ثقافة المجتمع ثقافة لا تعترف بحرية التعبير ولا الحق في مخالفة رأي من هو أكبر سنا أو أعلى مكانة، فإن التعليم الذي يتلقاه الطالب في الفصل يكون وفق ما يرضي تلك الثقافة، حيث يلقن أساسيات الانقياد والإذعان لما يصل إليه من الأعلى وأن ليس له أن يسال أو يبدي رأيا أويعترض. ولأن ثقافة المجتمع ثقافة مولعة بترديد وسماع قصص الجن والسحرة وما يملكونه من قوى خفية مخيفة، فإن التعليم، سواء من خلال كلام المعلمين أو في محتوى بعض الكتب المدرسية يظل يلقن الطالب الخوف من كل ذلك، ويزيد عليه بأن يدربه على سبل التحوط والنجاة منه. ولأن ثقافة المجتمع ثقافة تمجد المظهر لا المخبر، فإن الناس أغلبهم حريصون على أن يحصل أولادهم على أعلى الدرجات في نتائج الاختبارات، اكتسبوا معرفة فعلية أم لم يكتسبوا، فيأخذون في مجادلة المعلمين متى نقصت الدرجات ويسوقون الأعذار والمبررات أمام المعلم ليسد ما فيها من نقص، فيفهم المعلم أن دوره تيسير حصول الطلاب على الدرجات العالية لا تعليمهم، فيجتهد في تلخيص الدروس وصبها في قوالب صغيرة قابلة للحفظ وصالحة للإجابة على أسئلة الاختبارات ونيل أعلى الدرجات. وحين يذهب الطلاب لاختبار القدرات الذي لا علاقة له بحفظ الملخصات تخذلهم نتائجهم، فيظنون أن العيب في ذلك الاختبار وليس فيهم، فيلومونه ويطالبون بإلغائه بعد أن عرى أمامهم ما في تعليمهم من قصور. حتى رياض الأطفال لم تسلم من ثقافة تمجيد المظهر، فرغم أن معظم الدراسات التربوية الحديثة ترى أن رياض الأطفال هي مرحلة لتنمية قدرات الطفل ومهاراته الاجتماعية والإدراكية والحركية وإشباع حاجاته النفسية والعاطفية أكثر منها مرحلة لتعليم القراءة والكتابة، إلا أن كثيرا من الآباء يصرون على أن يتعلم أطفالهم القراءة والكتابة، فتبادر كثير من رياض الأطفال التي يهمها جذب الآباء إليها أكثر مما يهمها تقديم تعليم متسق مع المبادئ التربوية الحديثة، تبادر إلى إرغام الصغار على تعلم القراءة والكتابة حتى وإن لم يكتمل نمو عضلات أصابعهم الصغيرة بعد لتكون قادرة على إتقان مسك القلم. حين يفشل التعليم، لا تلوموه وإنما لوموا ما أنتم عليه من فكر.