ربما يكون الحلم الكردي بإنشاء وطن قومي، بات قاب قوسين أو أدنى من التحقق، فما صدر من تصريحات ومواقف حول فدرلة سوريا لم يأت من فراغ، إنما جاء نتيجة معطيات محلية ذات بُعد إقليمي ودولي، وليس بالضرورة أن يكون الأمر محصوراً فقط في معطيات الواقع الجغرافي الذي آل إليه الوضع الكردي في شمال سوريا تحديداً. لقد سبق وأعلن سيرغي ريابكوف نائب وزير الخارجية الروسي حرفيا نأمل أن يتوصل المشاركون في المفاوضات السورية إلى فكرة إنشاء جمهورية سورية فيدرالية، ولا تكمن خطورة هذا التصريح وأهميته في كون صاحبه الرجل الثاني في الخارجية الروسية، وإنما أيضاً لكونه صدر بعد أيام قليلة على شهادة جون كيري وزير الخارجية الأمريكي أمام الكونغرس التي قال فيها:ربما فات الوقت لإبقاء سوريا موحدة، مؤكداً أن هناك خطة ( باء ) يمكن اللجوء إليها في حال فشل الحل السياسي، وانهيار صيغة الحكم الانتقالي. بعد هذه التصريحات المرعبة، علت بعض الأصوات المطالبة بتطبيق اللامركزية في سوريا، وهو أمر مقبول، باعتباره أمراً إدارياً تنموياً، ولا يمس الكيان السياسي للدول، إلا أن المفاجأة كانت بإعلان أول تطبيق للتقسيم الفدرالي بإعلان الكيان الكردي شمال ريف حلب وجنوبه، وهو الكيان الذي تبلورت معالمه خلال التحالف الروسي الأمريكي لمنع تنظيم داعش من السيطرة على مدينة عين العرب، وبتدخل مباشر من قوات البيشمركة الكردية (شمال العراق) ووحدات الحماية الكردية المدعومة من حزب العمال الكردستاني، وبغطاء جوي أمريكي، وهنا يكمن اللغز، لماذا تم التركيز على كوباني من دون غيرها من المناطق السورية التي سقطت في يد تنظيم داعش مثل تدمر والرقة أوالموصل والأنبار في العراق، والسؤال الأبرز لماذا تدخلت أمريكا جواً ضد تنظيم داعش بمجرد توجهه نحو أربيل، ولم تتحرك وهو يتقدم نحو الموصل والرقة والرمادي؟ ثمة سياق متدحرج لخلق بيئة مناسبة في شمال سوريا على غرار ما حصل شمال العراق، لكن المفارقة، وهي ليست بالضرورة غريبة، أن تنطلق ردات الفعل الرافضة للفدرلة السورية من تنظيمات كردية وكذلك من تصريحات لمسؤولين أمريكيين، وإن كانت لا تتسم بالجدية أو بآليات واضحة لمنعها، لكن المفارقة تكمن هنا، في الانعطافة التركية نحو إيران بهدف احتواء الإعلان الكردي وخنقه في مهده، لما يتقاسمان الخوف نفسه مع كل من سوريا والعراق، من إمكانية قيام دولة كردية على حساب هذه الدول الأربع. قبل قرن من الزمن قسمت الإمبراطورية العثمانية بين الحلفاء المنتصرين، على قاعدة الانتداب وتحت وصاية عصبة الأمم، ووقعت معاهدة سيفر في عام 1920 التي نصت على إنشاء كيان قومي كردي في المناطق التي يتواجد فيها الأكراد في كل من سوريا والعراق وتركيا وإيران، إلا أن ثورة أتاتورك، أدت إلى توقيع اتفاق لوزان في عام 1923 الذي وضع حدود تركيا الحديثة، وألغى الشق الكردي في اتفاقية سيفر. يظن الأتراك اليوم أنهم بمنأى عن سياقات هذه الفدرالية التي عمت المنطقة، بدءاً من العراق عبر دستور عام 2005، الذي أعطى للكيان الكردي مواصفات الإقليم، الذي بات اليوم دولة كاملة الأوصاف دون الإعلان عنها ليتم الاعتراف بها، ولحقها في ذلك اليمن الذي قُسم على أساس محافظات هي أقرب إلى الفدرلة، ناهيك عن لبنان المفدرل واقعياً والذي يبحث عن حل لمشاكله وسط مطالبة أطراف كثيرة بالفدرلة كحل للتخلص من مشاكله ومآسيه المفترضة. ولا يخفى عن الذاكرة أيضا دولة مهاباد الكردية التي أعلنت في عام 1941 في إقليم ماهاباد الإيراني، والذي تمَّ القضاء عليها بعد 11 شهراً من الإعلان عنها. الإعلان عن روج آفا شمال سوريا، أي النظام الاتحادي في سوريا، يعني أقله، أن المنطقة ذاهبة إلى أسوأ مما هي عليه الآن، من تشرذم وتفكك. فاتفاقية سايكس بيكو قبل قرن من الزمن قامت ونفذت على معطيات وتوازنات حكمتها الحرب العالمية الأولى، واليوم ما يجري من تثبيت توازنات هي أشبه بنتائج حرب عالمية ثالثة أو رابعة ربما، وقعت ولم يعلن عنها، لكن نتائجها حاضرة في أذهان مخططي مستقبل المنطقة، وهي على ما يبدو متجهة باتجاه تفتيت المفتت وتقسيم المقسم، تحت مسميات الفدرالية التي تمس وحدة الكيانات التي تعاني من اهتراء مزمن في الأساس. صحيح أن غبن الأكراد لا يوصف عبر التاريخ، لكن السياق الذي يتم فيه تحريك قضيتهم، هي أخطر من إنشاء كيان، فهو أولاً وأخيراً، كما يبدو مشروع حرب قادمة بين الأكراد وكل من العرب والأتراك والفرس، فهل ستتوحد هذه القوميات في وجه مشروع الدولة الكردية؟ إن قراءة تاريخ القضية الكردية يشي بذلك، ليس ثمة توافق دولي على ذلك، كما أن من السهولة بمكان أن نرى العرب والأتراك والفرس في خندق واحد لمواجهة كيان يهدد مستقبل وجودهم وكياناتهم؟