لم يستوعب صلاح الهشلمون ما يجري أمام بيته في ساعات الفجر. الطرقات المخيفة على باب بيته، أيقظته. تحركات جنود. ضجيج وكأن عملية عسكرية ستنفذ. نهض من فراشه مذهولاً ومرتبكاً. فهو لم يخرج بعد من حزنه على ابنته الشابة هديل التي قتلت... بل أُعْدِمت، بحسب ما يرى والدها ومحامية الدفاع، نائلة عطية، مع سبق الإصرار جراء تعرضها لوابل من رصاص جنود الاحتلال الإسرائيلي. - افتح الباب وبسرعة، صرخ الجندي، فما كان أمام صلاح إلا تنفيذ هذا الأمر، وما أن فتح الباب حتى اقتحمت البيت قوة من الجنود تبلغه أنها تنوي أخذ مقاساته تحضيراً لهدمه. هدم بيت عائلة الشهيدة هديل، على رغم الدعاوى المقدمة لأكثر من طرف تملك الأدلة على أن هديل لم تحاول قتل الجنود وأن قتلها كان ظلماً وتجنياً وفي مركز الدعاوى مطلب بمعاقبة قاتليها. - أي بيت تريدون هدمه؟ تساءل الوالد باستغراب رافقه استهجان للتوجه في مثل هذا الوقت لتنفيذ عمل كهذا... الساعة الثالثة فجراً. فالقضية ما زالت قيد البحث. نحن نقول إن ابنتنا أعدمت بدم بارد ونطالب بمعاقبة المجرمين. بأي حق تريدون هدم البيت؟ تساؤلات الوالد ذهبت في مهب الريح. فانتشر الجنود في البيت وأخذوا المقاسات، لتسجل تلك أولى العقوبات التي تفرضها إسرائيل على عائلة الشهيدة هديل. وهي عقوبة من سلسلة عقوبات جماعية: «لم يكتفوا بترهيبنا، فجر ذلك اليوم، عندما أخذوا مقاسات البيت، بل طاولت عقوباتهم عائلتي الكبيرة، حيث أصدرت السلطات الإسرائيلية قرارات بمنع سفر أفراد العائلة»، يقول صلاح في حديث خاص مع «الحياة» ويضيف: «توجهت والدتي وشقيقي إلى الأردن وعند معبر الكرامة تم توقيفهما من قبل الإسرائيليين، وأبلغوهما أنهما ممنوعان من السفر فعادا وحاولنا الاستفسار فتبين أن العقاب يشمل آخرين من العائلة أنا وابني وغيرنا ممنوعون من السفر». ومنع سفر عائلات منفذي العمليات هو جانب من سلسلة عقوبات اتخذتها إسرائيل في أعقاب تصعيد العمليات في الضفة، لم تقتصر على العائلة الصغيرة لمنفذي العمليات أو من تدعي إسرائيل أنهم كانوا ينوون تنفيذ عمليات، فأطلقت عليهم الرصاص وقتلوا، وهناك عدة حالات كهذه رفعت فيها قضايا وتضمنت أدلة وإثباتات على أن الشهيد أو الشهيدة قتلوا بدم بارد من دون ذنب اقترفوه. بعض هذه الأدلة صور من الكاميرات المركبة عند حواجز الجيش أو كاميرات لصحافيين أجانب تواجدوا، صدفة، في موقع جريمة القتل، التي نفذها الجيش وترصد تحركات ذلك الشهيد الفلسطيني وتؤكد أنه لم يقم بأي تصرف يبدي نية لتنفيذ عملية أو أنه يهدد حياة الجنود الإسرائيليين. في استعراض لعدد من الملفات التي تم إعدادها على مدار الأشهر الستة الأخيرة، لحالات قتل فلسطينيين من قبل الجنود الإسرائيليين، تتكشف صورة واضحة، مبنية على أدلة وإثباتات بأن هناك استسهال للضغط على الزناد وعمليات قتل للفلسطينيين بدم بارد، وهذه باتت سمات بارزة لهذه الجولة من المواجهات، التي تشهدها الضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلتين. لم يتفق على اسم لها. البعض أطلق عليها «انتفاضة السكاكين» وآخر «انتفاضة الأفراد». والبعض لم يعتبرها انتفاضة بل انعكاساً لحال خنق يعيشها الفلسطينيون في ظل الاحتلال الإسرائيلي. ولكن المشترك بين هذا كله أن الشعب الفلسطيني، بأسره، تحول إلى متهم في نظر الجنود الإسرائيليين. الملفات التي تعدها المحامية نائلة عطية، تطالب بتقديم منفذي جرائم قتل الفلسطينيين للمحاكمة وملفات أخرى تكشف أساليب القتل المختلفة وأبشعها استخدام الأسلحة المحرمة دولياً، الدمدم، بإطلاقها في النصف الأعلى من الجسم وتصل ذروة بشاعة القتل بترك الفلسطيني ينزف دماً حتى الموت. وتقول المحامية عطية:» إسرائيل تجاوزت في إجراءاتها خلال المواجهات الأخيرة كافة القوانين الدولية وقوانين حقوق الإنسان. ولم تقدم لائحة اتهام واحدة في جميع الملفات التي قدمت. وفي هذه الأيام يتم، وبصمت وهدوء، تنفيذ عقوبات جماعية خطيرة تمس بشريحة كبيرة من الفلسطينيين، لمجرد أنها تربطهم علاقة قرابة مع الشهيد الفلسطيني، الذي يدافع الجيش عن جنوده مدعياً أن قتله أو قتلها نفذ لمنع تنفيذ عملية، ونحن في قضايانا نقول في شكل واضح أن الفلسطينيين أعدموا بدم بارد. لا نقول قتلوا بل أعدموا في الميدان. وقتلوا أكثر من مرة، لأنهم عند إطلاق الرصاص عليهم تم تركهم ينزفون حتى الموت، من دون تقديم الحد الأدنى من الإسعاف الذي يمكن إنقاذ حياتهم، ومن دون السماح للإسعاف الفلسطيني أن يتقدم لعلاجهم. والعقوبات هذه، تضيف عطية، تؤدي إلى قتل الفلسطينيين وهم أحياء من خلال تضييق الخناق عليهم بهدم بيوتهم ومنعهم من السفر وحتى إلغاء تصاريح العمل والتجارة وإلغاء تصاريح الدخول للعلاج، وبعضهم من أقارب ليسوا من الدرجة الأولى للشهيد. عقوبات تشكل حال من التضييق والإذلال والتنكيل بالفلسطينيين». وفي حالة الشابة هديل، التي يتضمن ملفها العديد من الأدلة والإثباتات، التي تدين الجنود بقتلها من دون ذنب اقترفته، وأبرزها صور تشمل لحظة وصولها إلى المكان وقتلها وإبقائها تنزف حتى الموت. يقول والدها د. صلاح الهشلمون، وهو طبيب سبق وأشرف على فحص جثث شهداء وصلت إلى المستشفى حيث يعمل، أنه، وعلى رغم كل ما ألم به من ألم وحسرة على ابنته، إلا أنه أصر على رؤية جثتها. ويقول: «ما لا يقل عن عشر رصاصات اخترقت جسدها وهناك مداخل رصاص من دون مخرج، أي أن الرصاص تفتت وانتشر في مختلف أنحاء جسدها، وهو سلاح من نوع «الدمدم» المحرم دولياً»، ويضيف: «لقد صعقت فهديل لم تتجاوز الـ19 من عمرها، وهي نحيفة جداً ولا يتجاوز وزنها 45 كيلوغراماً. توقعت أن أرى رصاصة واحدة في جسدها لا أكثر، فهي كافية لقتلها ولكن ما شاهدته من خلال التصوير الطبقي كان أمراً مرعباً. مداخل الرصاصات تدل على أن أكثر من جندي كان يطلق عليها الرصاص لأن الإصابات جاءت في مناطق مختلفة، وشهود عيان أيضاً أكدوا لنا ذلك. فهناك شظايا كثيرة في جهة اليسار من منطقة الصدر والإبط الأيسر ورصاصات في منطقة الخاصرة اليمنى والركبة اليمنى». ماذا بعد؟ لا جديد في القول إن الاحتلال الإسرائيلي يرتكب جرائم ويتفنن فيها. وأسلحة الدمدم المحرمة دولياً، وغيرها، استخدمت أيضاً في عمليات عسكرية سابقة. والسؤال الذي يطرح نفسه ماذا بعد؟ هل هناك حاجة لتحركات سياسية وديبلوماسية فلسطينية وعربية لمواجهة هذه الجرائم؟ هل فعلاً يمكن إسرائيل أن تتصرف بمطلق حريتها في الضفة والقدس وترتكب الجرائم، كيفما شاءت ومتى أرادت؟ هل رفع الدعاوى التي تقدمت بها المحامية نائلة عطية وتصر عائلات الشهداء على الاستمرار بها كافية؟ وماذا عن محكمة الجنايات في لاهاي ودور السلطة الفلسطينية؟ أسئلة طرحها أكثر من طرف فلسطيني التقيناه حول الموضوع. ومدير فرع حقوق الإنسان في الضفة، سميح محسن يتساءل ويجيب: «لماذا سلطات الاحتلال تستمر في الجرائم؟ ببساطة لأنه لم تقدم ولا لمرة واحدة للمحاكمة ولا للمساءلة والحساب وإذا بقيت في حال فلتان ومن دون عقاب فستواصل اقتراف جرائمها»، يقول سميح محسن. ويوضح موقفه من جانب حقوق الإنسان فيقول: «إذا أخدنا ما تنفذه إسرائيل من عقاب جماعي فهو أمر محرم وفق القانون الإنساني الدولي بالاستناد إلى المادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة. وفي شأن حماية المدنيين فهذه المادة تحرم في شكل صريح العقاب الجماعي، الذي يمس أشخاصاً لم يقترفوا أي فعل أو ذنب. ومن خلال تجربتنا مع الاحتلال فلا قيمة عنده للمعاهدات والمواثيق الدولية، وهو أمر جعل أشكال العقاب الجماعي كثيرة خلال المواجهات الأخيرة، ولم تعد تقتصر على هدم البيوت أو طرد عائلات منفذي عمليات أو ممن اعتبرهم الجيش خططوا لتنفيذ عقاب فإسرائيل تتفنن في عقوباتها من فرض الحصار على السكان المدنيين، من خلال إغلاق الحواجز أو، أحياناً، إغلاق مدن بأكملها وطرد عائلات من بيوتهم وطردهم إلى بلدات أخرى حتى أن إسرائيل تتفنن في عقوباتها وآخر ما تنفذه هو حرمان عائلات أسرى من الحصول على مخصصات التأمين، وهذا ما حصل لعائلات ثلاثة معتقلين وهم محمد أبو كف (18 سنة) ووليد الأطرش (19 سنة) وعبد محمود دويات (20 سنة). فقد تسلمت عائلاتهم في السابع عشر من هذا الشهر الجاري كتباً رسمية من التأمين يبلغ فيها أنه قرر وقف التأمين الوطني عنهم. والثلاثة معتقلون منذ شهر أيلول الماضي بتهمة التسبب في مقتل مستوطن، بعد إلقاء الحجارة وقلب سيارة المستوطن». ويشير سميح محسن إلى أن إقامة الحواجز التي تمنع مرضى من الوصول إلى المستشفيات للعلاج والعمال من الوصول إلى أماكن عملهم لتوفير لقمة العيش والطلاب إلى مدارسهم، هذه الممارسات هي عقاب لعشرات آلاف الفلسطينيين على جريمة لم يقترفوها». محسن مقتنع بأن الحاجة تتطلب اليوم اتخاذ كافة الإجراءات لمحاسبة إسرائيل فوراً عبر نقل هذه الملفات إلى المحاكم الدولية ويقول: «لقد سبق ونجحت جهود في تقديم الدعاوى ضد قادة إسرائيليين في بعض الدول الأوروبية ومنعوا من الدخول إليها بعد أن كان خطر الاعتقال يلاحقهم. والجرائم المرتكبة في المواجهات الأخيرة تحمل قضايا لا تقل خطورة وبعضها يشكل جرائم قتل في شكل متعمد». أما صلاح الهشلمون فيصر على متابعة قضية ابنته هديل، عبر الملف الذي تقدمت به المحامية نائلة عطية ويقول: «لقد تم إعدام ابنتي هديل بدم بارد... نعم إنه إعدام وليس قتلاً، هو تهمة دامغة ضد الجنود الإسرائيليين ومتخذي القرارات في إسرائيل. جريمة قتلها من لحظة إطلاق الرصاص وحتى نوعية الرصاص المستخدم وتركها على الأرض 45 دقيقة تنزف دماً من دون إنقاذها أو تقديم أبسط العلاجات لها. إنني أتهم القيادتين السياسية والعسكرية في إسرائيل بقتلها أكثر من مرة فحتى بعد أن تركوها تنزف كانت طريقة نقلها إلى المستشفى في غاية الإهمال... بكل ألم أقول إنهم تعاملوا معها كأنها بضاعة داخل كيس. ولن أسمح لمن تصرف معها بهذا الشكل أن يقضي أيامه حراً طليقاً ويده على الزناد تهدد يومياً عشرات الشابات والشباب الفلسطينيين كهديل». ويزداد غضب صلاح وهو يحدثنا عن صور لابنته وصلته وهي شبه عارية، ويقول: «سأطرق كل الأبواب حتى تصل قضية هديل إلى المحكمة الدولية ولن ترهبنا أساليبهم وتخويفهم، فحتى وإن هدموا كل بيوتنا ومنعونا جميعاً من السفر لن أتنازل عن معاقبة المجرمين». وتؤكد المحامية نائلة عطية على ضرورة تحرك فلسطيني ومتابعة هذه الملفات لتقديمها إلى المحاكم الدولية فعدم فعل ذلك يعكس نوعاً من التغطية على هذه الجرائم. وأبدت عطية استعدادها لخوض هذه المعركة القضائية، محلياً ودولياً، من دون التنازل عن معاقبة الجنود، الذين نفذوا إطلاق الرصاص وقرروا إعدام من هم أبرياء ومعاقبة متخذي القرارات بإطلاق النار.