لطالما اشتهر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بمفاجآته المتنقلة على مسرح الساحة الدولية، وكان أحدث تلك المفاجآت إعلانه سحب جزء أساسي من القوات الروسية من سوريا، بالكاد بعد مرور ستة أشهر على انتشارها. وتركت الخطوة إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما وبقية العالم في حيرة حيال الدوافع. ويبقى السؤال الحقيقي متركزاً على نطاق الانسحاب الحقيقي، فعلى الرغم من سحب روسيا لطائراتها وعتادها الحربي، إلا أن قاعدتها الحربية في طرطوس والقاعدة الجوية الجديدة بالقرب من اللاذقية سمحا لروسيا بإعادة تثبيت موقعها في حال تطورت الأمور لغير صالح موكلها، الرئيس السوري بشار الأسد.. ويمكن في الوقت عينه لبوتين أن يصور الانسحاب الحالي على أنه أحد سبل ممارسة الضغط على الأسد وحضه على المشاركة الفعالة في جولة محادثات السلام الأخيرة برعاية الأمم المتحدة. كذلك حققت خطوة بوتين الأخيرة أهدافاً جيوسياسية واسعة النطاق، إذ أنه حال دون ما يعتبره المحاولة الأحدث لأميركا للإطاحة برئيس قوي مستبد. وقد حافظ بل وعزز نفوذ روسيا في الشرق الأوسط، وتحررت موسكو جزئياً من عزلة الغرب المفروضة عليها عقب حادثة غزو أوكرانيا. أما على المستوى الداخلي، فقد هللت وسائل الإعلام الروسي لعودة البلاد لأداء دور قيادي على الساحة الجيوسياسية، بعد تراجع طويل سطّر الحقبة اللاحقة لانهيار الاتحاد السوفييتي. وصوّر الإعلام كذلك الحملة الروسية في سوريا على أنها انتصار عسكري مدو. عملت موسكو مع سحب بعض عتادها العسكري من سوريا إلى الحيلولة دون تعثرها، وتكرار مشهد الحملة السوفييتية الموهنة في أفغانستان، التي امتدت لعشر سنوات. وأصبح بإمكان الكرملين أن يتخذ موقعاً أفضل استعداداً للانتخابات البرلمانية المزمعة بعد ستة أشهر. أما على النطاق الأوسع، فإن تدخل روسيا في سوريا أسفر عن إخفاقين جسيمين، وقد سحبت موسكو بعض قواتها، في حين ظل استمرار احتلال داعش لمناطق واسعة من سوريا. ويكشف ذلك نفاق الكرملين ومزاعمه بأن التدخل كان الهدف منه محاربة إرهاب التنظيم. كما أنه يجعل عواصم الغرب أقل استعداداً لأخذ تصريحات بوتين على محمل الجدّ. وقد فشلت الغارات الروسية أيضاً في تغيير الانقسامات الأساسية على الأرض، ويبرز بعد خمسة أعوام من بدء الحرب الأهلية في سوريا بصيص أمل متمثل في الوقف المبدئي للأعمال العدائية، وانطلاق جولة محادثات سلام جديدة في جنيف. ويساهم تراجع الغارات الجوية على مواقع قوات المعارضة في تخفيف عبء المأساة الإنسانية على الشعب السوري، وبالتالي سيل اللاجئين المتدفقين إلى تركيا وأوروبا. إلا انه لا يوجد إثبات قاطع على مساهمة تحرك موسكو في إعادة بث الاستقرار طويل الأمد في سوريا، سيما أن القوى المعارضة للنظام السوري لا تزال صامدة وقوية. كما لا يمكن أن ننسى أن النظام يتحمل المسؤولية الأساسية في الصراع الذي أدى إلى مقتل 300 ألف شخص وتهجير الملايين من الناس. لقد أعلن بوتين، أخيراً، أن المهمة قد أنجزت ربما، لكن طالما أنه يمعن في دعم الأسد، فإن مأساة سوريا لن تنتهي. فرضية إذا افترضنا أن الإعلان الروسي ليس مجرد حيلة مشابهة لما حدث في أوكرانيا، فيعني ذلك أن بوتين قد توصل على ما يبدو لاستنتاج أن تدخله في سوريا قد حقق العديد من الأهداف الفورية، وأهمها إبقاء الأسد في سدة الرئاسة وتبديل مشهد انهياره الوشيك الذي طغا على أحداث الصيف الماضي.