لا يمكن لإنسان عاقل أن يصفق للقتل، ولا يمكن له إلا أن يحزن على ما يجري في إسطنبول؛ عمليات انتحارية واحدة تلو الأخرى، والهدف هو حكومة حزب العدالة والتنمية، بينما الضحايا مدنيون وأجانب أبرياء! هؤلاء في أعين الإرهابيين لا يختلفون في التوصيف عن توصيف الأميركان والروس لضحايا قذائفهم وطائراتهم: ضحايا جانبيون! وكما تعودنا عقب أي هجوم إرهابي تسارع وسائل الإعلام بنقل ما حدث، ويتزاحم المحللون على شاشة التلفزة لتفسير ما يجري؛ دائما ثمة إجماع عند الجميع بأن هذا العمل إرهابي، ومدان بكافة المعايير؛ وأن عدم الإدانة هو تشريع وتشجيع للإرهاب! لا شيء في هذا العالم يمكن تفسيره من دون تجاهل إطاره؛ التفسير السياسي لهذا هو أنه لا يمكن عزل أي عمل عن أسبابه السياسية والاقتصادية والاجتماعية. في الإطار التركي نلاحظ وجود قضيتين إحداهما تاريخية، والثانية هامشية. القضية الهامشية هي من تداعيات الحرب في سوريا، وبروز تنظيم داعش، ومحاولات هذا التنظيم إرهاب الحكومة التركية لحملها على تعديل سياستها تجاهه. هذه المسألة الهامشية تبقى كذلك، لأنها لا تنبع من واقع تركي بحت، ولا من مظلمة تاريخية، أو اقتصادية أو عرقية، بل من فهم خاطئ للتاريخ، والجغرافيا وحتى المعتقد الذي يؤمن به هذا التنظيم؛ لهذا فمن العبث النظر لهذا التنظيم في الإطار التركي الخالص، لأنه عنصر خارجي بامتياز. القضية التاريخية تتعلق بالأكراد وسعي الكرد إلى الانفصال عن تركيا، والذي يعتقد الأكراد أنهم حرموا منه في تسويات الحربين العالميتين الأولى والثانية. هذه القضية التاريخية تعاظمت مع سياسة التتريك القسرية التي بدأت بعد انهيار الخلافة، ثم السلطنة، واشتدت مع حزب «الاتحاد والترقي» الذي قرر أن تكون تركيا دولة طورانية خالصة، حتى ولو استدعى ذلك إراقة دماء، وتهديم ثقافات وطمس لغات! كان زعيم هذه الحملة مصطفى كمال الذي يلقبه الأتراك الطورانيون «أبو الأتراك»، ويصفه الأكراد بأنه سارق دولتهم، وقاتل أطفالهم! نحن إذن أمام رؤيتين للتاريخ، كلتاهما ترفض الأخرى، وكلتاهما قررت اللجوء إلى القوة لحل هذه المسألة التاريخية. ازدادت المشكلة تعقيدا مع الأزمة السورية، والعداوة الروسية لتركيا، والتذبذب الأميركي، والموقف المصلحي الإيراني، علاوة على تعقيدات المنطقة ككل؛ تركيا فجأة وجدت نفسها في مأزق حقيقي، لأنها اكتشفت، لأول مرة بعد انهيار الخلافة، أنها دولة بتاريخ ودولة بلا تاريخ. فهي دولة الخلافة المعطرة بالتاريخ، لكنها أيضا دولة طورانية (بلا تاريخ). لكن الدولة الطورانية، كما الخلافة، تتفتت مع مطالبة الأكراد بالانفصال، ومع مطالبة الأرمن بالاعتراف بالمجزرة بحقهم، ومع مطالبة العلويين بأن تغير تركيا بوصلتها في الأزمة السورية، ومع مطالبة المسيحيين بالاعتراف بتاريخهم في إسطنبول! تركيا دولة، وكغيرها من دول المنطقة، مليئة بالتناقضات، وسريعة العطب، والاشتعال، والخطر من الداخل وليس الخارج! قرار الحكومة التركية بالرد على هذا المأزق التاريخي هو المهم، ويبدو أنها اختارت ما سبق وجربته حكومات تركية قبلها: خيار القوة. لكن القوة في إطار كهذا لن تنجح، إلا إذا استطاعت أن تبيد الأكراد كما أبادت أميركا الهنود الحمر، والإنجليز السكان السود في أستراليا، والبلجيكيون السود في الكونغو! لا يمكن للحكومة التركية تبني حل كهذا لسبب بسيط، أن الأكراد حملوا السلاح، وقرروا القتال، وأن العالم، يؤيد حقهم! ثمة مشكلة لا يعيها الساسة في منطقتنا، وهي أنهم يعتقدون أنهم حلفاء لأميركا، ولكن الدولة العظمى ليس لديها حلفاء، لهذا تقاوم تركيا الإرهاب وحدها ومن دون حليفتها أميركا، وحلف الأطلسي، ولهذا تحولت تركيا من دولة إقليمية مهمة إلى دولة مترددة، عاجزة، وخائفة من المستقبل؛ ولأنها كذلك تحاول تشغيل خط التواصل مع إيران، وتعيد الحرارة، وإن باستحياء، إلى العلاقة مع إسرائيل، وتحاول استرضاء موسكو قدر ما أمكن، وتحاول ابتزاز أوروبا بورقة اللاجئين، وفوق كل ذلك، تجد صعوبة بالغة. هذه الصعوبة ليس سببها أن تركيا عاجزة، بل سببها أنها لا تعترف بمشكلتها، ولا تجد لها حلا، وإن كان مرًا وصعبًا، لكنه في النهاية سيكون حلاً أفضل من الاستمرار في النزف، ومعايشة القتل والتدمير. هذا النكران هو الذي يجعلها وحيدة في الداخل التركي؛ فالحزب الجمهوري يعارض هيمنتها، والحزب القومي يريد عنفا أكبر مع الأكراد، وحزب الشعوب الديمقراطي يتعاطف مع الأكراد ويعارض سياسة القوة؛ تركيا وإن بدت قوية، إلا أنها تتفكك من الداخل، وتتأكل بفعل التناحر السياسي، وتضطرم تحت نار الكراهية العرقية والإثنية وحتى الدينية. الأكثر أن قيادتها لا تزال تعتقد أن مشكلتها الإرهاب، وأنها ستنتصر عليه. في إطار كهذا يسهل جدا معرفة أسباب الإرهاب، وأيضا إيجاد الحل، لكن بالقدر ذاته، يصعب تلمسه خارج الإطار. من داخل الإطار يمكننا أن نرى المشكلة بأنها داخلية بامتياز، وأن الحل بإعادة النظر بالدولة الوطنية التركية، وبمكوناتها، وبكيفية تشكلها المستقبلي؛ هذا يتطلب إيجاد صيغة بديلة للأزمات تضمن للجميع، وفق التوازنات والأحجام، تسوية عادلة. أما إذا رأت أن مشكلتها الإرهاب فإنها ستستمر بالقتال، وقتل الإرهابيين المتحمسين للموت، والذين هم أصلا وقبل أن يموتوا انتقلوا إلى العالم الآخر! وكلما أصر الرئيس إردوغان على أنه تركيع الإرهاب، أدرك أن كلماته جوفاء، لأن الإرهاب الذي يقاتله له هوية، ومعتقد، وقضية، وليس إرهابا عبثيا، وإلا فلماذا عجز أتاتورك، وبعده كل الرؤساء الذين تعاقبوا على تركيا، عن هزيمته! ما تواجهه تركيا نوعان من الإرهاب: إرهاب يتمثل برداء المطالبة الكردية بتسوية تاريخية مع الدولة التركية، وإرهاب يتمثل بتنظيم داعش، وهو إرهاب عبثي، ليس له مشروع، ومتأسس على الكراهية، والقتل. النوع الأول صعب هزيمته، بينما الثاني مهما علا سيُرمى في مزبلة التاريخ.