يدخل المشهد العربي الراهن مرحلة مختلفة عن سابق تاريخ المنطقة، فالتغيرات سريعة، والتحالفات متعددة، والارتباطات متنوعة، ولا توجد صورة كاملة محددة لمشهد ثابت في المنطقة إذ إن سرعة التغيير وتداخل الأحداث أدتا إلى حالة من السيولة في المواقف المختلفة على نحو دخل بها إلى مرحلة الاستقطاب الإقليمي. فكل من إيران والسعودية وتركيا وإسرائيل لها دور نشط في المشرق العربي. أما مصر، تلك القوة العربية التقليدية الكبرى، فهي في حالة ترقب مزدوج لأنها تراقب ما يدور حولها وفي الوقت ذاته تمضي في ظل ظروف داخلية تجعل الآخرين يترقبون ما سوف تسفر عنه الأحداث المتراكمة فيها بعد خمس سنوات من الثورات والاضطرابات والتغييرات، وإذا أخذنا المغرب العربي بدءاً من ليبيا، فإن المشهد يحمل أسباباً للقلق والتوتر تضيف إلى المشهد العربي أبعاداً لا يمكن إغفال تأثيرها، ولأن الموضوع معقد وأطرافه متشابكة فإننا نفصله من خلال النقاط الآتية. أولاً: يبدو أن المنطقة العربية بل وإقليم الشرق الأوسط برمته يدخل الآن مرحلة حاسمة نتيجة الصراعات الدولية والتحالفات الإقليمية، فعندما أعلن الروس سحب قواتهم من سورية توقع الجميع أن صفقة تمت بين موسكو وواشنطن ومعهما عواصم غربية أخرى، حيث اتفق الجميع على تقسيم سورية بطريقة ترضي كل الأطراف. فالروس يحصلون على الشريط الساحلي الذي يلبي حلمهم التاريخي بالتواجد على المياه الدافئة، ولا مانع من تقسيم سورية بعد ذلك إلى كيانات طائفية وعرقية وبذلك تطمئن إسرائيل إلى أن مخطط التقسيم يمضي على قدم وساق. كما أن في ما حدث إشارة إلى التفاهمات الضمنية بين الأطراف غير العربية على حساب أطراف عربية أخرى لا تدرك خطورة ما تعيش فيه وصعوبة ما ينتظرها. إنني أظن من دون أوهام أن التطورات التي جرت على أرض الواقع في منطقة الشام الكبير، تؤكد دائماً أن الأمور تجري على وتيرة سريعة وكأننا نعيش فوق منطقة الرمال المتحركة. ثانياً: سوف تظل إيران الرقم الصعب في الشرق الأوسط، فسياستها الخارجية لا تخلو من غموض، ولقد سمعتُ كثيراً عن التمهيدات التي تمت لتوثيق العلاقة مع واشنطن، وكنتُ أتحدث عن ذلك الاحتمال منذ سنوات طويلة ولم يكن هناك من يريد أن يصدقني. كما أن إشاعات مختلفة تسربت في العقود الأخيرة - لا أريد تصديقها - عن اتصالات بين طهران والدولة العبرية. ولأنني أعرف أنه لا يوجد مستحيل في السياسة، فإنني أعبر عن قلقي الدائم إزاء مشاهد مختلفة تبدو ككرة الثلج فوق سطح المياه ولكننا لا نرى الجزء الآخر من أعماقها المختفية وحجمها الكبير. إنني أدهش أحياناً من مسار السياسة الخارجية الإيرانية على المستويين الدولي والإقليمي، ولا أتفهم طبيعة ذلك الدور الذي يعيش في صراع طويل مع جيرانه العرب خصوصاً في منطقة الخليج، ويسعى إلى استقطاب قوى إقليمية أخرى منها سورية الأسد و «حزب الله» في لبنان وقوى أخرى كثيرة تسعى معها إلى إيجاد تحالف ضمني يواجه التيار العربي السائد في المنطقة. وهنا أؤكد مرة أخرى أن الصراع عربي - فارسي وليس صراعاً سنياً - شيعياً. ثالثاً: تصورنا أن أتاتورك أقام الدولة التركية على العلمانية المطلقة، والارتباط بالغرب والابتعاد عن العرب منذ سقوط آخر خلافة إسلامية في مطلع عشرينات القرن الماضي، إلا أننا اكتشفنا الآن أن الأتاتوركية لم تكن بالقوة بحيث تصمد أمام التيارات الدينية التي وفدت على تركيا في العقود الأخيرة حتى وصل حزب «الفضيلة» بقيادة نجم الدين أربكان إلى السلطة ثم زالت عنه، ولكن رجب طيب أردوغان أحيا بـ «حزب العدالة والتنمية» دوراً مؤسسياً جديداً للتيار الإسلامي في ذلك البلد الذي هو عضو في حلف الأطلسي ويتطلع في الوقت ذاته إلى وراثة «العصر العثماني»، ولكن بثوب جديد فقطعت أنقرة خطوط اتصالها بمصر، أكبر دولة عربية وأهم دول جنوب المتوسط نتيجة انحياز الأتراك بقيادة أردوغان إلى جماعة «الإخوان المسلمين»، ورفضهم فهم ما جرى في مصر واستيعاب أبعاده. إذ إن نظام عبدالفتاح السيسي أجهض المخطط من بدايته إلى نهايته، والملاحظ هنا أنه في الوقت الذي تتنامى العلاقات السعودية - التركية، فإن العلاقات المصرية - التركية تتراجع. كذلك، فإن العلاقات بين طهران والرياض تزداد توتراً مع مرور الوقت، وبذلك اكتملت حلقة الاستقطاب الإقليمي وأصبح لدينا محور إيراني وآخر تركي وثالث خليجي. وفي ظل ذلك الزحام ضاعت قيمة العمل العربي المشترك، وفي ظني أنه يتعين على المصريين والأتراك أن يتجاوزوا الماضي وأن ينصرفوا بتفتح كامل تجاه العلاقات الثنائية بين البلدين، خصوصاً أن هناك مصالح اقتصادية مشتركة تجمع بين أنقرة والقاهرة على رغم كل التحفظات والتصريحات. رابعاً: لا أجد غضاضة كعربي من مصر في أن أقرر هنا أن مصر ستظل صامدة، ولقد حققت الديبلوماسية المصرية نجاحات لا بد أن نشير إليها ونشيد بها. فعلى رغم الظروف التي تمر بها مصر والمنطقة، حصلت القاهرة على ما يقرب من 180 صوتاً في الجمعية العامة للأمم المتحدة وهي تتقدم للعضوية غير الدائمة في مجلس الأمن. وهذا يعني أن غياب الدور المصري ليس تحولاً مستمراً، بقدر ما هي ظروف عابرة ستزول ذات يوم. ولقد بدأ الكثيرون من أشقاء مصر وأصدقائها يفتقدون الدور المصري الغائب، ولكنه يبدو حاضراً في كثير من المناسبات، من بينها اختيار أمين عام لجامعة الدول العربية مصري هذه المرة أيضاً، على رغم الظروف التي تمر بها القاهرة والتحديات التي تحيط بها. ولحسن الحظ، فإن مصر تمضي في طريقها متمسكة بعروبتها، مؤمنة أن تلك العروبة هي الحلف الباقي والحضن الدافئ والملاذ الأخير. إن مصر متمسكة بعلاقات أبدية مع أشقائها العرب، والتزامات تاريخية بأمن دول الخليج، وحرص شديد في التعامل مع الشأن الإيراني ورفض واضح للموقف التركي تجاهها. خامساً: إن موجات الإرهاب التي ضربت المنطقة حرَّكت المخاوف الراكدة، وأكدت للجميع أن ظاهرة الاستقطاب داخل المنطقة العربية أدت إلى موجات إرهابية تهدد كيان الدول وتعصف بأمن الشعوب. وعلى رغم أن هناك أصابع تشير بالاتهام إلى بعض الكيانات في المنطقة باعتبارها شاركت في تربية ذلك الإرهاب ودعمه، إلا أن ذلك يدعونا إلى إدراك أننا جميعاً في سلة واحدة لن يبرأ من أخطارها أحد. فالإرهاب الأسود يضرب بغير وعي في كل مكان. سادساً: إننا نلمس الآثار السلبية التي بدأت تظهر على السطح نتيجة أحداث ثورات «الربيع العربي» التي لا يشكك أحد في صدق نيات أصحابها ورغبتهم في تجديد شباب دولهم، والضرب على الفساد والاستبداد. إلا أن هناك من لم يتمكنوا من التمييز بين مصالح الشعوب وبين أجندات القوى السياسية التي تسرق الثورات، وتشوه النظم لمصلحة أهداف غير واضحة وخريطة طريق مضطربة. سابعاً: إن مستقبل الأزمات في النقاط الساخنة سواء في سورية أو العراق أو اليمن أو ليبيا أو حتى لبنان، هي محصلة نهائية للإخفاق العربي الذي نشهده وحالة التوتر التي أصبحت واحدة من سمات المنطقة وطبيعة سلوكات شعوبها. إنني أظن أحياناً أننا نقف على مشارف نفق مظلم ولكنني أقول إننا أمة عصية على الانهيار ودول قامت لكي تعيش. إن علاقة العرب بعمليات الاستقطاب الجديدة للقوى الإقليمية تجعلهم لاعباً فاعلاً في ظروفها المختلفة ولكنها في الوقت ذاته تحتاج إلى إدراك معنى الشد والجذب في العلاقات الدولية المعاصرة والتحالفات الإقليمية الجديدة. ولا يخفى على أحد أن روسيا الاتحادية تعتبر نفسها شريكاً أساسياً في الأزمة السورية وتطوراتها. كما أن إيران تملك دعماً مماثلاً، لأن لها دوراً خاصاً تجاه سورية تحديداً. ان المحصلة النهائية ستكون على حسابنا نحن العرب، لأننا نتخذ القرار السليم في الوقت المتأخر بينما هناك من يتهيأ منذ البداية لجني المحصول وقطف الثمار. أما آن الأوان لنستيقظ ولو متأخرين؟! * كاتب مصري