ارتبط الكتاب ارتباطا وثيقا بمدن بعينها. لازمتهم ولازموها. منحتهم شخوصها وأمكنتها ومنحوها المجد الأدبي شعرا ورواية وقصة.. صعدوا بها من الواقع إلى الخيال. نقلوا واقعها بمنظور وحساسية منتمية تارة ومتمردة تارة أخرى. جيمس جويس مع دبلن، بول أوستر مع نيويورك، نجيب محفوظ مع القاهرة، أورهان باموق مع إسطنبول، فرناندو بيسوا مع لشبونة، وسيلين مع باريس.. ما هي المدينة التي تسري دماؤها في نصوصك؟ ولماذا ارتبطت أساسا بهذه المدينة؟ ما هي الظروف التي ساقتك إليها؟ وما هي تجلياتها في كتابتك؟ ولماذا كتبت عنها دون سواها؟ هذه أسئلة ضمن أخرى، نحاول استقصاءها عن علاقة الكاتب بمدينته التي اختارها فضاء لتشييد عوالمه الأدبية.. إبراهيم الحجري ــ ناقد وروائي من المغرب لكل كاتب مرجعياته الواقعية التي يستمد منها مادته ومعطياته، خصوصا على مستوى السرد. فغالبا ما يؤثر فيه عالمها الواقعي ويومياته التي ستؤثث ذاكرته، منذ أيام الصبا إلى أن يشيخ، وحتى لو غير المكان، تظل المدينة أم الرأس حاضرة بقوة في الذاكرة، وحاضرة في إبداعه السردي في كل الأعمال، بشكل من الأشكال. إن الحياة الأولى، والصرخة الأولى والطعم الأول والقبلة الأولى والاحتكاك الأول مع العالم لن يمحى أبدا بتغيير المكان والزمان، وكأن المدينة التي نولد فيها تبصمنا بطابعها الخاص. نستلهم من مدينتنا الأثيرة على مستوى الوجدان، أحداثا وشخصيات وأمكنة وأزمنة... نراها مفصلية في تشكيل الوجود الذاتي الذي يتحول، بفعل ميكانيزم الإبداع، إلى وجود إنساني كلي. فعادة ما يكون المشترك الذي نستشعره، بشكل جمعي، من خلال ملامستنا للواقع المعيش، متواجدا في الاعتيادي والبسيط الذي ينفرط من بين أيدينا دون أن نعيه بحكم تكرره أمام أعيننا وإحساسنا المفرط بتداخلنا المزمن معه، حتى أنه يملأ علينا كل الفجوات، ويسكننا مثل الهوس دون أن يترك لنا فرصة للتفكير بعيدا عنه، وتخيل عوالم أخرى غريبة عنه كليا أو جزئيا من غير أن تكون له من خلالها تمثيلا ما لسماته وخصوصياته. ازددت بقرية خصبة تدعى أولاد افرج، تربض بوداعة في سهل دكالة حافلة بغطاء نباتي وفير، خصوصا الكروم وأشجار الكاليتوس التي تظلل كل جنباتها وباحاتها وأسواقها. وترعرعت فيها ذاكرتي، وتشكلت شخصيتي شيئا فشيئا، دون أن تكون لي فرصة للسفر بعيدا عنها لاكتشاف مناطق غيرها أو مختلفة عنها. فغالبا ما كانت زياراتي العائلية لا تتجاوز تخوم دكالة، وهي في الغالب تشترك السمات الجغرافية والثقافية نفسها. لم أكتشف، قبل العشرين، عوالم غير هاته التفاصيل التي رضعتها مع الحليب. لذلك ظلت هاته العوالم تسكنني لما ابتعدت عنها في مرحلة الشباب. أحسست أنني افتقدت جزءا مهما من كينونتي: ذلك الخصب المترف، والعلاقة التي تربطني بالتراب والماء والطبيعة، وفي هذا البعد، كان يجسد هذا العشق حضوره في شكل استيهامات وأحلام ورؤى وسرود. قد يكون هذا الافتقاد للمكان والزمان الخصبين دافعا قويا أيضا للكتابة السردية، حيث أشعر بأنني، من خلال الكتابة والتوصيف للعوالم التي أشتهيها وتحضرني بقوة في الغياب، بل وتحاصرني بشخوصها وفضاءاتها، أستطيع القبض على تفاصيل من ذاكرة منسية، واسترجاع جزء من هويتي التي تشكلت خلال العشرين سنة. بعد العشرين، جلت المدن مثلما جلت الأسواق، واتجهت غربا نحو عاصمة دكالة «مازكان»، المدينة التي زاحمت القرية أم الرأس في الحضور والعشق. تسللت إلى الدماء والخلايا مثل رذاذ ناعم، خفيف. وسكنت القلب. لم أرها يوما بعيدة عن قريتي المعشوقة الأولى، كانت صورة أخرى للخصب الذي ترعرعت فيه، الخصب الذي أججه حضور بحري باذخ. المحيط الأطلسي الشهير في الواجهة المديدة، وغابة الحوزية التي تظلل الذكريات والخطوات الأولى نحو الكتابة، والرمال التي طاردت فيها رفقة شلة من الغاوين للكتابة سرب الكلمات المحلق في الضباب، قريبا من النوارس وأشعة الشمس.. والقصور العتيقة التي تحتفظ بذاكرة من الوقائع والحروب والحضارات والانتصارات.. والطقس البهي الذي ينطق باعتداله الجمادات.. والفراشات المحلقة في المماشي والردهات والشوارع الكبرى المؤدية إلى سندباد وشارع النخيل.. والورود التي تتفتح كل يوم عن عشق جديد.. كل ذلك حرض في العشق القديم الذي احتضنته ذاكرتي في الزمن الطفولي الأول، وتوج في عطر الأماسي لوعة تجديد الحلول في هاته التفاصيل المورقة التي لن يتأتى القبض عليها إلا بالكتابة. أحتفظ لمازكان بمحبة البدايات في نحت الأبجديات الأولى، والعشق الأول للحياة والجمال. وأحتفظ لمراسيها وأضرحتها وثغورها ببصمة عميقة في تهييج السرد في وجداني الشخصي. كلما رأيت صورة ضريح عائشة البحرية حارسة الوادي ورسومات العشيقات والعشاق وأحلامهم الوردية في الظفر بالعريس، وضريح أبي شعيب السارية، وضريح الأمغاري الفتى العاشق القادم من سوس العالمة... أتذكر صورة مسعود بن الحسين الذي تأتيه «فرائس وتعود عرائس»، وأتذكر الصورة الماثلة في وجداني: تلك الصبية الجميلة التي كبلها الحفظان، وتركوها في ليل الخوف بخلوة مظلمة عرضة للكوابيس والمتاه أملا في شفاء قادم. أتذكر بسمتها الساخرة من القيود، وصراخها المجنون ضدا على تهافت الحفظان.. ظلت تلك الصورة الرهيبة المصحوبة بروائح البخور والجاوي مخزونة في الذاكرة، تجيش في مخيلتي عذابات وآلاما، ويوقظ في مخاوف وهلاوس وأسئلة مقلقة، ظلت تكبر معي. لذلك، تكاد لا تخلو كتاباتي من هاته الطقوس توصيفا وتقويضا ونقدا.. لقد استلهمت أحداث روايتي الأولى «صابون تازة» من تفاصيل ذاكرة مشحونة بوقائع فظيعة شهدتها في الطفولة، بينما كنا يوميا نعبر درب مسعود بن الحسين إيابا وذهابا من البيت إلى المدرسة، وكنا نقضي قيلولات مأساوية، ونحن نستريح في الحصة البينية، تحت ظل أشجار الكاليتوس قدام الضريح.. حيث كان بعض المجانين ينغصون علينا هدوءنا، ويهاجموننا بعد ما يفلتون من إسار الحفظان، ويتخلصون من سجن الخلوات القديمة والعميقة... وكثيرا ما اعتدوا على كل من يجدونه في طريقهم. بل وأحدثوا عاهات مستديمة لدى البعض. وغالبا ما كان ينقطع التلاميذ عن الدراسة تحت ضغط الخوف من عدوان المجانين. لقد أحسست وأنا أجسد هذه الصور المنقوشة في الذاكرة سردا، أنني أتخلص من بشاعة هذا العالم الذي يسكنني، وأعوضه بالصفاء. أما روايتي الثالثة «العفاريت»، فتمثل امتدادا للرواية السابقة، من حيث احتفائها بالأجواء نفسها: طقوس الحضرة، الاستشفاء من الحمق بالتعذيب الجسدي، وإحيائها لتاريخ لا يتردد إلا على مستوى المشافهة، ويتعلق الأمر بكرامات وأساطير ترتبط بقدوم مسعود إلى البلدة «أولاد افرج»، وصراعه مع الخصوم، وتواصله مع صلاح دكالة الآخرين الذين تخرجوا من مدرسة مشتراية القريبة. وتشترك الروايتان معا في انتقاد الوضع الخرافي الذي يهيمن على البلاد والعباد، واستلهام أجواء الخصب التي تحفل بها منطقة دكالة، والاشتغال السردي على تاريخ المنطقة المنسي، وتفاصيل الذاكرة الشخصية.