سؤال كبير وبدهي يطرحه الفرد العادي حول علاقة الدين بالتطرف والإرهاب، ولماذا يظهر المتدينون دائماً وراء العنف؟ وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) و «القاعدة» وميليشيات الحشد الشعبي في العراق و «حزب الله» في لبنان شواهد إسلامية لا تخطئها العين ولا تغيب عن متابع، كما أن الجماعات المتطرفة المسيحية واليهودية والبـــوذية والهنـــدوسيــة وغيرها، تمارس التطرف ذاته في أطروحاتها وممارساتها مع المخالف. هذا التطرف الذي تحمله الجماعات الدينية هل هو بسبب الدين الذي تعتنقه؟ وهل يحمل الدين هذه القابلية للتطرف والعنف ويسوّغها لدى معتنقيه؟ حتى نجيب عن هذا السؤال الواقعي نحتاج إلى معرفة حقيقة الأديان ومدى قابلية معتقداتها للتطرف والعنف، وكذا نحتاج إلى معرفة هذه الجماعات الإرهابية وبواعثها للعنف، ولا تفوت أهمية معرفة المستفيد من تلك الممارسات المتطرفة. هذه المتطلبات التساؤلية قد تفتح لنا باب الفهم الواقعي لما نشعر به من تنامي العنف الديني، والقلق من توفير الدين المناخ الأمثل لنمو هذه النزعات المتطرفة، وهذا الشعور بدأ يسري في قلوب، حتى المؤمنين المعتدلين من أصحاب الديانات المتنوعة. وأمام هذه الحال من التداخل بين الدين والعنف باسم الدين وتأثيراته في الواقع، أطرح بعض الرؤى في النقاط الآتية: أولاً: نـــحتــاج إلى أن نتفحّص حقيقة اندفاع المتدينين نحو العنف والمواجهة، وهذه الروح القتالية العالية التي يتمتعون بها، ما أصلها وما هي بواعثها الراهنة؟ وبالنظر والبحث في حال هؤلاء الشباب المندفعين نحو التطرف، نلمس أنهم متدينون حقاً في أشكالهم الظاهرة، لكنهم في الغالب جهّال بمقاصد الدين وأدوات العلم به، هم متدينون ولكنهم أحاديون متعالون لا يقبلون الحوار ولا النقد ولا التقويم، هم متدينون لكنهم منعزلون عن الواقع والتأثر والتأثير فيه، هم متدينون لكن سلوكهم يتناقض مع أخلاق الدين ومثالياته القيمية، هم متدينون لأنهم يعلمون أن الدين في أكثر المجتمعات اليوم يقبل بالقناعات من دون تمحيص وعقلنة وأن المقدس سيمهد الطريق نحو أي مبتغى. فالمتدينون الذين يمارسون العنف والإرهاب اليوم في منطقتنا العربية خارجون في الحقيقة عن الدين، ليس كشكل بل كمضامين تتمثل في عدم رجوعهم إلى أهل العلم الراسخين، وتذبذب منهجهم في التلقي والاستدلال، واستباحتهم الدماء تحت أي ذريعة، والضرب على وتر الأدبيات القديمة للدين كالخلافة والجزية وبيت المال وهي مؤثرة في استجلاب الحالمين من الشباب والمخدرين بخطاب الوعظ البارد، كما يحاول متدينو الجماعات المتطرفة استغلال مظلوميات الشعوب بعاطفة مفبركة تنتج جنوحاً انتقامياً في المقابل، ويبقى سلاح الشكل الظاهري للمتدين مؤثراً اجتماعياً في كسب الأنصار وجمع الفئة الناجية معه كما يروج لذلك بأحدث وسائل العصر. ثانياً: الدين الذي يدعو إلى الحب والتسامح والوئام، كما جاء في غالبية الديانات، أصبح في فترات تاريخية مرت بها الشعوب أكبر مسوغ لأشنع الحروب والخراب وامتحان الإنسان. والملاحدة بغالبيتهم يتكئون على هذه الوقائع في نبذ الدين بل ومحاربته، بينما الحقيقة مختلفة كليا عن ذلك، لأسباب أهمها أن الدين هو المقدس الأعظم في النفوس، لذلك هو مطمع لكل أصحاب النفوذ لأن يتغلغلوا من خلاله لتحقيق أطماعهم السلطوية والمصلحية، فتدخلت التأويلات البشرية وأثقلت سماحة الدين برغبات أصحاب المطامع والنفوذ، فحينما يريدون الدين مبرراً للغزو والقتال يأتون به كذريعة، وعندما يريدونه مبرراً للاقتصاد الحر والربا وجمع المال من دون قيود يأتون به مسوغاً لما يطلبون، هذه التأويلات وغيرها هي ما لوّث سماحة الأديان وعناياتها بالإنسان، فأضحت وللأسف معظم الديانات من أدوات الهيمنة واستغلال المجتمعات، والمتأمل في تاريخ الديانات يشهد مراحل من التحولات تبتعد في بعض منعطفاتها عن روح الدين بالكلية، والعجيب أنه كلما زاد الانحراف عن مقاصد الدين قابله مزيد من طقوس ولبوس تعزز هيبة الدين الظاهرية! ثالثاً: الدين جاء ليحقق للفرد سلمه الداخلي وطمأنينة روحه من خلال الإيمان بالله تعالى، على اختلاف بين الأديان في تكييف حقيقة هذه الإله المتسامي في الروح، لكن ما يهمنا هو إشكالية تسويغ الدين السلمي للممارسات العنيفة، وكثيراً ما يدرج لفظ (المقدس) في ألقابها كما حصل في حرب الثلاثين عاماً والتحالف المقدس لملوك أوروبا في القرن التاسع عشر، والحروب الصليبية في القرون الوسطى (انظر على سبيل المثل: الحرب المقدسة، الحملات الصليبية وأثرها على العالم اليوم، تأليف كارين أرمسترونغ، ترجمة سامي الكعكي، نشر دار الكتاب العربي 2004). وعند المسلمين يعتبر الجهاد، وهو من مقامات الدين العظمى وذروة سنام الإسلام، مبرراً آخر للعنف، وهذه الفكرة المختزلة عن الجهاد، أعتقد أنها خطأ من حيث التأصيل والتنزيل، فالجهاد وسيلة لتبليغ الدين وليس لفرضه، ويجب عندما تغلق كل الدروب السلمية المتاحة، كما أن له مقاصده وشروطه، وكل ذلك تم نسفه من خلال جماعات التطرف ليصبح الجهاد لوناً فاقعاً للقتال المفتوح مع أي مخالف، وليس أداة للعدالة وتحقيق السلم في الأرض. المقصود في هذه المسألة أن الدين في أصله قائم على السلم بلا إكراه والتسامح من خلال التعارف (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) (الآية في الحجرات 13)، والتوظيف السياسي السلطوي في بعض المراحل جعل من الأديان أدوات طيّعة للاستبداد، ورهبان وحاخامات وفقهاء البلاط كثيراً ما ينجرفون رغبة أو رهبة نحو إملاءات السلطة وليس لواجبات البلاغ الحق. رابعاً: العنف الحاضر والسابق الذي انتشرت جماعاته ومنظماته في كل القارات، هو وليد السياسة الظالمة والعدوان الصارخ على حقوق الإنسان، وهذه الفكرة يجب توضيحها وتخليص الدين من شوائبها الفاسدة، وللأسف هذا الدور من التبرير القمعي المغلف بالمقدس أو الحق المطلق للسياسي شارك فيه رجال الدين وبعض الفلاسفة مثل هوبز وهيغل، عندما نظّروا إلى تغول السلطة المطلقة تحت مبررات الخضوع لإرادة السلطة الحامية للسلم المدني (هوبز) أو تحقيق الحرية المطلقة عندما ينخرط الفرد في الروح الجماعية وتنعدم إرادته الخاصة (هيغل)، وهذا ما يعقّد تحرير الدين من تلك الملابسات، كونه تشابك أيضاً مع تراث فقهي وتأويلات دينية ضخمة. وفي عصرنا الحاضر قد لا تعنينا كثيراً الحاجة إلى مناقشة فيلسوف أو رجل دين، لأن صانع الأفكار واللاعب الرئيس في قناعات الناس اليوم هو الإعلام الذي يصنع العدو ويشيطنه في شكل مذهل ولو كان حملاً وديعاً، وبالتالي تحول السياسي كثيراً نحو المثقف أو الصحافي الذي يظهر في عدد من المنابر الجماهيرية ليصيغ من جديد صورة العدو وصورة الصديق، وحينما يدخل الإعلام المبهر الهوليوودي على سبيل المثل في خط الصناعة التزييفية فإن التأثير سيكون كبيراً وراسخاً في اللاوعي، ما يجعل دور عالم الدين في توضيح موقفه أشبه بمن يلقن تلاميذ في خيمة نائية، لديه مؤمنون ولكنهم غائبون، بينما يشحذ الإعلامي تصوراته مهما كانت نشازاً أمام حضور مليوني يستسلم أمام مغريات الفن من دون مقاومة. خامساً: كتأكيد لما سبق خرج الرئيس الأميركي باراك أوباما في العاشر من آذار ( مارس) بآراء غريبة من خلال حواره مع مجلة «أتلانتك»، إذ اعتبر أن مشكلة الإرهاب الإسلامي تتطلب أن يقوم الإسلام بإنجاز مصالحة مع الحداثة كما حصل للمسيحية في القرنين الماضيين، وأن الأصولية لها تفسيراتها الخاصة التي تمنع التسامح مع الآخر، ويبدو أن هذا التصريح يعيد ما جاء أعلاه من تزييف الحقيقة بإظهار جانب واحد منها فقط وإخفاء الجوانب الأخرى الأكثر قتامة، حيث حمّل الدين كل أخطاء المنطقة وأخطارها، وربما نسي أو تناسى الرئيس الأميركي أن الدين لم يأمر بصنع القنابل النووية وقتل الآلاف بها، ولا باستعمار الشعوب ونهب خيراتها، ولا بفرض الاستبداد وشرعنة الظلم تحت قبة الأمم المتحدة (بشار الأسد أنموذجاً)، ولا بالسماح بالمخاطرة بثروات الأمم، ولا بنشر الرذيلة وتهديد الأمان الأسري، وغض الطرف عن عصابات المخدرات والسلاح وغسيل الأموال لتعيث في الأرض الفساد، هذا الأنموذج السياسي يؤكد أن الدين أعظم مفهوم مر في التاريخ قبولاً للحق وضده والعدل وضده والمصلحة وضدها، ليس لأن الدين سبب في التناقض، بل لأن المتدين المزيف لم يفهم حقيقة الدين ولا يريد فهمه، بل سيشن حربه المقدسة على من يحاول فهم الدين بغير فهمه!