بساعة متأخرة من ليل الخميس، غادر دنيانا الإنسان والمفكر الاستثناء، جورج طرابيشي. بعد أن أمد المكتبة العربية، بترجمات ومؤلفات أدبية وفلسفية وفكرية شملت الفنون والعلوم. ذهب تاركاً وراءه إرثاً يعادل جهد أكاديمية كاملة. كانت حياة الراحل، ثرية ثقافيا، فالجميع يعرفون عناوينه والخطوط التي تداخل فيها سجالياً مع زملائه المفكرين والفلاسفة والباحثين. كان صارماً صادقاً في إبداء رأيه، وتبني مواقفه. وعندما تناول التراث بالبحث، أراد التثبّت قبل التسرّع، وعرضه لأدوات البحث العلمي بتأنٍّ وتؤدة. حظيتُ بلقائه وكنت آخر ناشر تعامل معه، فألفيته إنساناً قبل أن يكون مفكّراً. لوّعته الأزمة السورية، ولم يكن إلا مع شعبه وحقّه في الحريّة، غير أنه كان لم يتخل عن التساؤل عند الحديث عن مستقبل بلاده، فطرح أسئلة صادقة عن موقع الديموقراطية والمرأة والأصولية في ظلّ كل هذا اليباب السوري. كان يكتب شهادةً للتاريخ أبعد مما هو الموقف السياسي عبر مقالةٍ تُنسى، لئلا يشهد عليه الجيل القادم بالتقاعس، أو الغشّ في الحلم المبالغ فيه وبيع الكلام عليهم حول أفق أخضر يتلو كل هذه الأزمة المؤلمة. حين كتب مقالته الأخيرة عن محطّات حياته، لكأنه يرثي نفسه، اتصلت به، تمنيتُ عليه كتابة مذكراته، غير أن مشروعاً لايزال يلوح في ذهنه المتوقّد المقبل على بحر الثمانين من العمر، إنه مشروع حول «تفسير القرآن» مشروع لم يتم، ولو أكمله فإن الصدفة ستجمع منقوده الأكبر محمد عابد الجابري، الذي ختم مشواره العلمي بمشروعٍ عن القرآن وتفسير القرآن أيضاً. تصدّعت مدرسة عربية كبرى، وعزاؤنا بإرثه وتركته العلمية، وداعاً أستاذ جورج، وتعازينا لرفيقتك الأستاذة هنرييت عبودي، وكريمتيك، وأحبابك، وتلاميذ فكرك، ومؤلفاتك.