يساورني إحساس سوف تؤكده شواهد الأيام، بأن جانبًا لا بأس به من بريد هيلاري كلينتون الإلكتروني المحجوب عنا، متعلق في الأساس بما كان بينها، كوزيرة خارجية، وبين جماعة الإخوان في مصر، من خلال آن باترسون، سفيرة الولايات المتحدة في القاهرة، وقت أن كانت «الجماعة» في الحكم، أو في الطريق إليه! تقول المعلومات المنشورة إن وزارة الخارجية الأميركية أتاحت على موقعها الإلكتروني، يوم السبت الثالث عشر من فبراير (شباط) الماضي، 551 رسالة كانت كلينتون قد تلقتها، أو أرسلتها عبر بريد إلكتروني خاص، في الفترة من 2009 إلى 2013. لاحظ هنا، أن هذه السنوات الخمس، التي راحت فيها رسائل وزيرة الخارجية السابقة، أو جاءت، هي بالضبط السنوات التي جرى خلالها التحضير لـ25 يناير (كانون الثاني) 2011 في مصر، ثم صعود الجماعة الإخوانية بعدها إلى السلطة، فسقوطها المدوي في منتصف 2013! ثم إن علينا أن نلاحظ أيضًا، أن الـ551 رسالة، لم يتم نشرها مكتملة كلها، لأن اجتزاء قد تم في 84 منها، بحيث يرى جزء منها النور، ولا يراه الجزء الآخر، لاعتبارات قيل إنها تخص الأمن القومي الأميركي، ولأن الخارجية الأميركية قد رأت أن في الـ84 رسالة فقرات، لا يجوز أن ترى النور الآن. ما يشغلني في هذه المسألة، ليس أن جراحة قد جرت للرسائل المحجوب بعضها، فسوف يأتي وقت يتاح لنا فيه أن نطل على هذا الجانب المخفي من هذه الرسائل، سواء كان هذا الوقت بعيدًا، أو كان في أمد زمني منظور، ولذلك، فإن هذه ليست في ظني، القضية التي يجب أن تشغلنا، ليس لأنها غير مهمة، وإنما لأن أوان انشغالنا بها، لم يأتِ بعد. ما يشغلني حقًا، هو هذا السؤال: كيف استطاعت كلينتون أن تمضي في تنفيذ سياسة خارجية لبلادها، في مصر بشكل خاص، وفي المنطقة بوجه عام، ليست مقتنعة بها، ولا هي قادرة، منذ البداية، على استيعابها؟! إن وزير الخارجية، في أي بلد، ليس صانعًا للسياسة بطبيعة الحال، ولكنه مُنفِّذ لها، في جانب، ومشارك في وضعها، في جانب آخر. وما نعرفه منذ خروجها من منصبها، ثم منذ إصدارها كتاب مذكراتها المتاح في الأسواق، بالإنجليزية والعربية معًا، أنها كانت ضد التوجه الذي أخذه الرئيس أوباما، مع فريق ضيق من حوله، إزاء تطورات الأمور مع بدء هبوب ما صار يسمى «الربيع العربي» على المنطقة. هي كانت ترى أن انتقال السلطة في مصر، مثلاً، من مبارك، إلى الرئيس القادم من بعده، لا بد أن يكون في هدوء، وأن يكون متدرجًا، وأن يكون منه، إلى شخص آخر من داخل نظام الحكم نفسه، وأن يكون ذلك، عبر سنوات، وليس في شهور، تمهيدًا لانتقال الحكم، فيما بعد، من نظام مبارك، إلى نظام آخر خارجه. وكان تقديرها كما جاء في كتابها، أن هذا هو الأصوب، وأنه الأقرب لطبائع الأمور، لأن الانتقال المفاجئ، على نحو ما جرى فعلاً، يوم تخلى مبارك عن السلطة، ليس في صالح مصر، ولا هو في صالح دول المنطقة من حولها.. فدولة بحجم الدولة المصرية، لا يمكن أن تحكم فيها ثورة يوليو (تموز) 1952، منذ قامت، إلى عام 2011. ثم ينتقل الحكم منها، فجأة، لنظام حكم آخر من خارجها.. ليس ممكنًا، ولا حقائق الأوضاع في البلد تحتمله! وكان أوباما، مع فريق ضيق من حوله، يتبنى رؤية مضادة، لرؤية كلينتون ومعها كان يقف وزير دفاعه روبرتس غيتس ومبعوثه الخاص إلى مبارك، السفير فرانك وزنر. ولا بد أن الطبيعي، عندئذ، أن تتغلب وجهة نظر الرئيس، على وجهة نظر وزيرة خارجيته، مهما كان وزن الفريق الذي يساندها في موقفها. وتتبقى خطوة أخرى، بعد ذلك، هي أن تعتذر كلينتون في حالة كهذه، عن عدم البقاء في منصبها، لأنها، والحال هكذا لا تستطيع المضي في تنفيذ سياسة للرئيس، وإدارته، ليست هي، كوزيرة، مقتنعة بها. وما حدث، هو أنها استمرت في موقعها، تطبق من السياسات، ما كانت ضده في بدء «الربيع».. فلما غادرت الموقع، صارحتنا بأن رأيها كان كذا، وكذا، وأنها قالت للرئيس كيت، وكيت! كيف؟! هذا سؤال سوف يظل حائرًا، إلى أن نقع له على جواب، وسوف تظل الحقيقة القائمة، في هذا المقام، أن عدم مشاركة وزير الخارجية.. أي وزير خارجية.. في وضع سياسة بلاده نحو دول العالم، بافتراض أنه لم يشارك بأي قدر في صنعها في مطابخها الرسمية، ليس معناه أن يظل يبعث برسائل، وأن يتلقى رسائل، وأن يقطع خطوات، ويزور عواصم، دون أن يكون ذلك كله، عن اقتناع منه بما يفعل. الذين تابعوا كلينتون فيما بعد، وهي تزور ميدان التحرير وملامح البهجة تملأ وجهها، بعد تخلي مبارك عن الحكم، ثم وهي تقف مع الإخوان قبل مجيئهم إلى الحكم، وفي أثنائه، بطريقة معلنة بل وسافرة، وبحماس كان ظاهرًا، لا يمكن أن يصدقوا أنها هي نفسها، التي قالت ما قالته، عن موقف مناقض لها، بالمقارنة بموقف إدارة أوباما، عند بدء هبوب رياح «الربيع».. لا يمكن! إذا كانت هي بلا ذاكرة، فالمؤكد أن الذين تابعوا خطواتها تلك ابتداء، ثم قرأوا كلامها لاحقًا عن مواقف مبدئية كانت لها، لهم ذاكرة تسجل، وتحفظ، ثم تعي!