منذ اللحظات الأولى لبداية القصف الروسي في سورية، قبل حوالي خمسة أشهر، كان من الواضح أن ذلك التدخل لا يهدف بشكل رئيسي إلى هزيمة تنظيم داعش. عوضاً عن ذلك، بحسب صحيفة تلجراف، كانت روسيا تهدف لتحقيق ثلاثة أهداف، هي تجنب الهزيمة الوشيكة لنظام الأسد، وإجبار المعارضة على الجلوس إلى طاولة المفاوضات بشروط موسكو، وإحباط محاولات الغرب لعزل روسيا بعد أزمة أوكرانيا. ومنذ إعلان الرئيس بوتين عن بدء سحب القوات الروسية الرئيسية من سورية، لم تتوقف وسائل الإعلام الروسية عن تكرار حقيقة أن هذه الأهداف قد تحققت، دون التطرق إلى ذكر أن داعش لا يزال يحتل مناطق واسعة من الأراضي السورية. النجاحات العسكرية المحدودة التي استطاعت قوات النظام السوري تحقيقها على الأرض بمساعدة الطيران الروسي أجبرت المعارضة على قبول التفاوض مع النظام. ومن ناحية ثانية، اضطر الغرب مرة أخرى للتعامل مع بوتين وحكومته، رغم حربه على أوكرانيا. ولكن إذا كان كل شيء جيداً، فلماذا تغادر القوات الروسية الآن؟ خسائر بشرية من وجهة نظر الكرملين، يجب أن يكون السؤال: لماذا البقاء؟ بالرغم من إيجاد مسوغات لتبرير الحرب أمام الرأي العام الروسي، فإن هذه الحرب لم تكن بلا خسائر. روسيا اعترفت بخسارة ثلاثة عسكريين، طيارين اثنين عندما أسقطت تركيا طائرة حربية روسية، وجندي قالت موسكو إنه انتحر، منذ بداية الحملة العسكرية، لكن خبراء دوليين يعتقدون أن خسائر الروس كانت أكبر من ذلك. وفي أكتوبر الماضي، نجح داعش في تفجير طائرة ركاب روسية على متنها 224 شخصا في هجوم قال التنظيم إنه رد على تدخل بوتين في سورية. هذه الخسائر لم تؤثر كثيراً على الدعم الشعبي، بفضل سيطرة الكرملين على أجهزة الإعلام. ومع ذلك فإن مستشاري بوتين يعرفون أن صبر الشعب على الحرب الخارجية محدود دائماً. مخاطر التورط لكن العامل الأهم للانسحاب كان خوف موسكو من تكرار تجربتها في أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي. تلك الحرب بدأت أيضاً بتدخل ناجح مبدئياً، لكنها تحولت إلى حرب دموية استمرت عشر سنوات، أدت في النهاية إلى انهيار الاتحاد السوفيتي فيما بعد. ورغم أن المسؤولين العسكريين الروس لا يعترفون بذلك، إلا أن هناك دلائل تشير إلى بداية توجه الحرب في سورية إلى نفس الوجهة الأفغانية. فما بدأ أساساً على أنه حرب جوية محدودة فقط تطور إلى إرسال مستشارين من القوات الخاصة ومراقبين تم نشرهم على الخطوط الأولى لتنسيق الضربات الجوية، كما شوهدت عربات عسكرية تابعة لقوات المشاة الروسية في مناطق الصراع. بعد ذلك بدأت دبابات T-90 الروسية المتطورة، والتي تم نشرها مبدئياً لحماية قاعدة حميميم الجوية، حيث تتواجد الطائرات الروسية، تظهر على الخطوط الأولى للقيام بمهمات هجومية. هشاشة انتصارات النظام ومع كل انتشار جديد للقوات الروسية، كان الرئيس بوتين يتقدم قليلاً داخل المستنقع الذي سيكون من الصعب جداً الخروج منه. قرار سحب القوات الرئيسية يرسل إشارة واضحة للرئيس السوري بشار الأسد، وللغرب أيضاً، بأن روسيا لا مصلحة لها في خوض هذه المعركة إلى النهاية. لكن المشهد السوري لا يزال خطيراً للغاية، فالانتصارات التي حققتها قوات النظام هشة ويمكن عكسها في أي وقت، خاصة أن داعش لا يزال يسيطر على مناطق واسعة من البلاد، كما أن اللاعبين الخارجيين لم يتخلوا بعد عن أهدافهم. روسيا أيضاً لم تتخل عن سوريا بشكل كامل، فهناك قوات رئيسية هامة لا تزال موجودة في القواعد الجوية والبحرية في سورية، مما يعني أن روسيا تستطيع العودة في أي وقت تشاء.