منذ بدء الخليقة كانت العلاقة بين الذكر والأنثى علاقة تكاملية - أو هكذا أتصور- بحيث لا يمكن في حال من الأحوال استغناء جنس عن الجنس الآخر، لا في العصور الغائرة في القدم، ولا حتى في العصور الوسطية ولا العصور الحديثة. ولم يحدث أن حصل مثل هذا الخلل إلا في بعض الكائنات الدقيقة أحادية الخلية ذات التكاثر الانقسامي اللاجنسي، لكن ما عداها فإن غالب المخلوقات كانت في حال عملية تبادلية كاملة، مرة تكون الهيمنة للذكر ومرة للأنثى، بحسب نوع الجنس. هذه هي العلاقة الأولية أو العلاقة/ الصفر، أي الأرضية التي يبدأ منها ما فوقها من علاقات أخرى. وبعيدا عن هذه الإشارات العلمية لدى الكائنات الحية، فإن العلاقة بين الرجل والمرأة كانت تخضع إلى التبادلية التي تخضع لها الكائنات ذات التكاثر الجنسي الثنائي، وعليه فإن العلاقة بين الرجل والمرأة هي علاقة تكاملية بحيث إن الحاجة تكون دائمة للطرف الآخر ليس فقط على مستوى العلاقة الجنسية فحسب، وإنما في سائر نواحي الحياة العاطفية منها والفكرية والجسدية والعملية اليومية. يبقى سؤال الهيمنة هو المحدد في العلاقة بين الطرفين، ففي بعض الدراسات المهتمة بدراسات تاريخ الإنسان "أنثربولوجيا" كانت الهيمنة للنساء في المجتمعات الأمومية، خاصة في مواطن الخصب قرب الأنهار والأساطير القديمة، في حين انقلب الحال في المجتمعات الأبوية لتكون الهيمنة للرجل على المرأة، وفي رأيي أن العملية كانت تبادلية، وليست هيمنة كلية للرجل، أو هيمنة كلية للمرأة، لأن الأساطير القديمة في أكثر عدد من المجتمعات تتحدث عن آلهة ذكورية وأخرى أنثوية، دون الحديث عن سيطرة كاملة لأحد الطرفين، بل العكس في تصوري، إذ يحصل نوع من الذوبان، أو العشق المتبادل بين أساطير تلك الآلهة، أو ربما الصراع بينهما، مما يعني تجاذبا في مسألة السلطة وتداولها، ولكن هذا يحتاج إلى تقص أكثر ودراسة بحثية متكاملة، ومن التعجل الفكري الحكم به حاليا. لكن منذ فترة وجود الحضارة القريبة، أي منذ حوالى الثلاثة آلاف سنة الماضية، وهي قريبة بالنسبة لعمر البشرية، كانت الهيمنة والسيطرة شبه الكلية، للذكورة على الأنوثة، وما زالت حتى الآن في العصور الحديثة، ذات المنزع الحداثي العقلاني. يطرح بيار يورديو فكرة الهيمنة الذكورية في كتاب له بنفس الاسم، بأن العديد من المجتمعات تضع الهيمنة الذكورية محل تقدير، بسبب من فكرة التفوق الجسدي للرجل على المرأة، وتشارك المرأة في تكريس تلك الهيمنة للرجل في نظرتها الدونية لذاتها من تفضيلها لجسد الرجل، كأن ترفض الارتباط بمن هو أقصر منها أو أصغر عمرا أو أكثر نحالة جسدية، فضلا عن الهيمنة غير الجسدية كالهيمنة العقلية، أو السلطوية الرئاسية أو العملية الاقتصادية كالتدبير المنزلي، أو حتى السلطة اللغوية التي تجعل اللغة تسير وفق المصطلحات الذكورية أكثر من المصطلحات الأنثوية، وغيرها، وقبل تحليلات بورديو، سبق أن اعتبر فرويد أن عقد المرأة في بعض تحليلاته النفسية كانت بسبب فكرة الخصاء التي ولدت عليها، وهي تبدو فكرة ذكورية حتى عند فرويد نفسه، الأمر الذي يعني أن فكرة الهيمنة الذكورية تبدأ من ثنائية الجسد الذكوري/ الأنثوي، فالهيمنة الذكورية تتشكل بحسب رأي بورديو من ترسخ وتجذر من فعل الترويض الجسدي، ولذلك فهو يرى أن الإنجازات التي حققتها الحركة النسوية ما زالت أقل في السياق العام في الهيمنة الذكورية، والمرأة، في رأيه، هي المسؤولة عن ذلك، وتحديدا في تكريس مفهوم التجمل الأنثوي، وتجذير فكرة الشكل الجمالي بالنسبة لها. في مقابل ذلك كانت الحركة النسوية تذهب إلى نقد الهيمنة الذكورية في مختلف المجالات: الاجتماعية والدينية واللغوية وغيرها وتأخذ منحى المساواة مع الرجل ونقد مفهوم تشييء المرأة، والسلوكية الجنسية الدونية للمرأة وإخضاعها لمفاهيم الموضة، والحقوق الوطنية والعملية، والبعض من الباحثات يبحثن عن وجود نبيات أو فيلسوفات في مقابل الأنبياء أو الفلاسفة الرجال في العصور القديمة؛ لأن الأديان والفلسفات القديمة كانت ذكورية الطابع. وفي الواقع أن الكثير من الإشكالية الذكورية والنسوية واقعة في السياقات الاجتماعية المختلفة، والتضادية بين الذهنيتين أصبحت تضادية طاغية، بحيث إن الهيمنة الذكورية جرت إلى مسألة المطالبة بالنسوية وتعدت معها بعض المطالبات إلى تغيير الشكل الأنثوي الطبيعي حتى أصبحت المرأة ذكرا في مقابل ذكر، والندية في جانب منها عامل من عوامل النظرة السلبية تجاه الطرف الآخر والمنافسة في إسقاطه، بحيث جعل الرجل يدافع بالكلية عن هيمنته الذكورية وجعلت المرأة محور صراعها هدم تلك السلطوية وإحلال ذاتها سلطة مقابل سلطة الذكورية، حتى لم تعد المرأة تريد مقابلة الرجل لسوء النظرة الأنثوية تجاهه، والرجل لا يريد اللقاء بالمرأة بسبب الخوف من سقوط تلك الهيمنة، دون النظر إلى مسألة التكامل الطبيعي بين النوعين وحاجة كل منهما للآخر برؤية أكثر إنسانية، بوصفهما يشتركان في جنس البشر. العقلية التضادية، أو الندية "بوصف الندية تحمل صفة سلبية في إيجاد خصم" بين الرجل والمرأة تعطي مواقف حادة تجاه بعضهما، ليس بوصفهما كائنين متجاورين أو متكاملين، بل بوصفهما كائنين متنافرين، وفلسفات الاختلاف تؤكد على مفهوم الاختلاف الطبيعي، وليس الضدي، فالاختلاف الطبيعي في النوع لا يعني ولا يستلزم الاختلاف في المرتبة، أو النظرة السلبية تجاه الطرف الآخر، ففي رأيي أن المسألة هي إشكالية في مفهوم السلطة التي تهيمن على عقلية الرجل والمرأة على حد سواء بنسبة مختلفة بين النوعين، وفق آليات معرفية عديدة، وإن كان أكثرها ذكورية الطابع، إلا أنها تمارس ضد الرجل بنفس القدر، أو قريب منه، مما تمارس على المرأة، ومن المهم تجاوز فكرة الذكورة والنسوية إلى ما بعدهما؛ أي إلى الرؤية الإنسانية المشتركة ضد هيمنة السلطة القامعة، أيا كان مصدرها، رجلا كان أو امرأة.