تأمل الصين في قمة هذا العام، أن تتحول مجموعة العشرين إلى منصة لإدارة الاقتصاد العالمي في المدى البعيد، وأن تتخطى دورها كآلية لإدارة الأزمات، أو هكذا على الأقل صرح أحد كبار المسؤولين الصينيين في مستهل الاجتماعات التحضيرية للقمة التي ستُعقد لاحقاً هذا العام، وتستضيفها مدينة هانجزو Hangzhou الصينية. وكانت مجموعة العشرين قد تشكلت في أواخر التسعينات من القرن الماضي، لكن شهدت أول قمة لرؤساء الدول والحكومات في أعقاب الأزمة المالية العالمية. تأتي أهمية مجموعة العشرين لكونها تضم الجزء الأكبر من الاقتصاد العالمي ككل. ففي عام 2013، كانت البلدان الأعضاء في مجموعة العشرين تغطي 60.8% من إجمالي المساحة اليابسة في الأرض، يسكنها 64.3% من سكان العالم، وتنتج 85.2% من الناتج الإجمالي العالمي (بيانات المفوضية الأوروبية). وتنعقد قمة هذا العام، في مناخ اقتصادي من الأسوأ منذ القمة الأولى في عام 2008، فالناتج العالمي قد حقق في عام 2015 معدل نمو هو الأقل منذ عام 2009، وذلك عند 3.1% فقط (بيانات صندوق النقد الدولي)، مدفوعاً هذه المرة بتراجع الاقتصادات النامية، التي كانت في أعقاب الأزمة المالية قد استمرت في تحقيق نمو مستقر ساعد في التخفيف من حدة الأزمة العالمية وقت تدهور الاقتصادات المتقدمة. ويأتي هذا التراجع مدفوعاً بعدة عوامل على رأسها الطلب العالمي المتواضع الذي أدى لانخفاض أسعار السلع عالمياً، الاضطراب الاقتصادي/السياسي في الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو وخطر التفكك المحيط بهما باستمرار منذ 2010، تقلبات الأسواق المالية العالمية، الأزمات الجيوسياسية في العالم وعلى رأسها أزمة اللاجئين الكبرى في الشرق الأوسط وأوروبا، والعبء الاقتصادي المرتبط بها، الذي ألقى صندوق النقد الدولي الضوء عليه مخاطباً مجموعة العشرين مؤخراً، بالإضافة إلى التراجع الحاد في أسعار النفط، الذي أضر بقوة باقتصادات البلدان المصدرة له والنامية في أغلبها كروسيا، بلدان الشرق الأوسط، غرب إفريقيا، وأمريكا اللاتينية. كيف تنوي إذاً مجموعة العشرين معالجة الوضع الراهن؟ اعتمدت الاقتصادات الكبرى بصورة واضحة طوال الأعوام الماضية على السياسات النقدية لتجاوز الأزمة وتحفيز اقتصاداتها، وما زالت إلى اليوم تضخ بصورة دورية حزم تيسير كمي Quantitative Easing بشرائها أصولاً على أمل إنعاش أسواقها، كما استمرت البنوك المركزية للاقتصادات الكبرى في تخفيض أسعار الفائدة كذلك لتشجيع الإنفاق والإقراض. لكن، وكما هو واضح، فإن السياسات المالية لم تحقق النجاح المرجو، ولم يعد الحيز المتاح أمام صانعي القرار موحياً بقدرة على المناورة. فأسعار الفائدة في أغلب الاقتصادات المتقدمة تقترب الآن من الصفر بما يقوض قدرة البنوك المركزية على مزيد من التخفيض. فسعر الفائدة الذي حدده البنك المركزي الإنجليزي يبلغ 0.5%، والأوروبي عند 0.05%، وقبل أشهر قليلة، رفع الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي من سعر الفائدة لأول مرة منذ الأزمة المالية العالمية، وذلك إلى ما بين 0.25% و0.5% من المستويات القديمة القريبة من الصفر، نظراً إلى تعافي الاقتصاد الأمريكي من آثار الأزمة، كما أوضح الاحتياطي الفيدرالي في تفسيره للقرار. وقد لجأ البنك المركزي الياباني منذ أشهر، بأسعار الفائدة الصفرية منذ أعوام، إلى تخفيضها إلى مستويات سالبة على ودائع المؤسسات المصرفية لديه، وهو ما قام به البنك المركزي الأوروبي منذ سنوات قليلة كذلك، أي أن البنوك تقوم هي بدفع فائدة إلى البنك المركزي على ودائعها لديه، عوضاً عن الوضع الطبيعي المعاكس. وبالتالي تصبح تكلفة احتفاظ البنوك بودائع معطلة أعلى من مجرد تكلفة الفرصة الضائعة لأرباح استثمارية في قنوات أخرى، وإن كانت هامشية إلى الآن عند-0.1% في اليابان و-0.3% في منطقة اليورو. لكن مجدداً فإن معدلات الفائدة السالبة هي أداة محدودة الإمكانات ولا تمثل أفقاً جديداً ومخرجاً للسياسات النقدية غير الفعالة، فمع معدلات سالبة محدودة قد تختار البنوك الاستمرار في الاحتفاظ بودائعها لدى البنك المركزي وتحمل التكلفة المحدودة الثابتة عوضاً عن استثمارات أكثر خطورة سواء في الأسواق المالية أو الاقتصاد الحقيقي، وفي حالة تخفيض سعر الفائدة السالب مجدداً، فإن البنوك قد تبدأ- للحد من خسائرها- في تخفيض أسعار الفائدة دون الصفر على المودعين بدورها، أي يدفع الأفراد فائدة لإيداع مدخراتهم في البنوك، وهو ما قد يدفع المودعين إلى سحب مدخراتهم والاحتفاظ بها في صورة نقود، خاصة مع معدلات التضخم المحدودة- نظراً لتباطؤ الاقتصاد، الدافع وراء كل هذا من البداية- بما يهدد سيولة القطاع المصرفي. يدرس البنك المركزي الإنجليزي هذا الخيار في الذهاب إلى ما وراء معدل الفائدة الصفري، لكنه كمثيليه في اليابان ومنطقة اليورو يدرك مخاطر هذه الخطوة وضيق حيز فعاليتها. ويأتي هذا في حين يدرس البنك الفيدرالي الأمريكي تأجيل زيادات أخرى في معدل الفائدة كان قد خطط لها، مدركاً ربما أن التفاؤل حيال الانتعاش الاقتصادي الأمريكي قد يكون مبالغاً فيه. ماذا إذاً لدى الاقتصادات الكبرى في خزاناتها إلى جوار السياسات النقدية المستنزفة؟ تطل هنا السياسات المالية الكينيزية برأسها من جديد، كما هو الحال من كل أزمة اقتصادية كبرى، بوصفها الأداة الأهم لدى الحكومات لإنعاش اقتصاداتها المتباطئة، عبر زيادة الإنفاق الحكومي وتخفيض الضرائب، كذلك في أحيان أخرى لدفع الإنفاق الخاص بدوره، بهدف دعم الطلب الإجمالي وتجاوز التباطؤ. وقد أوصى صندوق النقد الدولي صراحة، وكذلك منظمة OECD مجموعة العشرين في أثناء الاجتماعات التحضيرية لقمة هذا العام، باللجوء إلى سياسات مالية توسعية لإنعاش الاقتصاد العالمي، والتخلي تماماً عن سياسات التقشف في الفترة الحالية، التي تنتهجها بعض البلدان، خاصة الأوروبية منها بغرض تحقيق فوائض في موازناتها لتقليص الدين العام المتضخم بها. لكن احتمال خروج القمة بتوافق حول سياسة مالية توسعية شاملة يبدو أملاً بعيداً إلى حد كبير، فهناك موقف معارض صلب للتوسع في الإنفاق الحكومي، يصحبه عجز في أوقات أخرى عن تنفيذ هذا النوع من البرنامج التوسعي في بعض من كبرى اقتصادات العالم. فالحكومة الألمانية على سبيل المثال تعارض برنامجاً مالياً توسعياً شاملاً في منطقة اليورو، بل وقادت بنجاح مؤخراً معركتها مع حكومة اليونان اليسارية ضد سياسة من هذا النوع، وفرضت على اليونان برنامجاً تقشفياً بالغ القسوة، يمثل امتداداً لسابقه في الأعوام القليلة الماضية الذي أدى لانكماش اقتصاد اليونان ب25% في أعوام قليلة. كما فرضت كذلك برامج مشابهة، وإن أقل حدة على بلدان اليورو المأزومة الأخرى كإسبانيا والبرتغال وقبرص، بغرض تقليص ديونها وعجز موازناتها. بالتالي فإن الاتحاد الأوروبي، السوق العالمي الأكبر، لن تمول حكوماته على الأرجح برامج مالية توسعية، حتى إن أبدت رغبة في ذلك، فقدرة حكومات بلدانه على الاقتراض لدعم برامج من هذا النوع، وهو السبيل التقليدي لتمويل هذه السياسات عبر الدين، تحدها لوائح منطقة اليورو التي تضع حداً أقصى على عجز الموازنة والدين العام، وهو الحد الذي تخطته أغلب البلدان قبيل الأزمة المالية، وتجبرها ألمانيا الآن على الالتزام به. أما الجانب الآخر في صعوبة تطبيق مثل هذا البرنامج العالمي التوسعي، فهو في صعود التيارات اليمينية حول العالم، التي تعارض توسع دور الدولة في الاقتصاد، زيادة الإنفاق الحكومي، والدين العام. فحتى في البلدان صاحبة السيادة الكاملة على سياساتها المالية والنقدية، كالمملكة المتحدة، يقود اليمين حملة بالغة التأثير للترويج لسياسات التقشف ومعارضة الكينيزية المالية. وفي الولايات المتحدة، ومع قرب الانتخابات الرئاسية، فإن بوادر الاتجاه يميناً تبدو واضحة كذلك بين المرشحين المحتملين للحزبين الجمهوري والديمقراطي على السواء، ربما باستثناء ساندرز، بما قد يبشر بتراجع الدور المؤثر للدولة في الاقتصاد والسياسات الكينيزية في أعوام أوباما، وهو ما كان له فضل كبير في تحسن الاقتصاد الأمريكي بعد الأزمة في 2008. ومع معارضة بعض من كبرى الاقتصادات العالمية إطلاق برامج مالية توسعية شاملة، سيكون لذلك تأثير في تنفيذ البرامج في غيرها من الاقتصادات. فالبلدان التي ستنفذ برامج توسعية كبرى ستحفز الطلب الداخلي، بما في ذلك على الواردات من البلدان المعارضة لتنفيذ هذه السياسات، وهو ما يعني استفادة منقوصة للأولى مع تحمل كامل تكلفة التوسع المالي، واستفادة مجانية للأخيرة من إنفاق الحكومات الأجنبية. في الغالب إذاً، لن تخرج قمة العشرين بسياسة اقتصادية عالمية لتجاوز التباطؤ، بل من المتوقع أن تلجأ الاقتصادات المختلفة لإجراءات فردية لإنعاش اقتصاداتها على حساب غيرها، فقد نشهد قريباً مساعي لتخفيض العملات، على الأخص من قبل الصين، بغرض زيادة الصادرات وإنعاش الاقتصاد اعتماداً على الطلب الخارجي، وليس الطلب الداخلي الممول من سياسات مالية توسعية. وقد لا يخرج القادة من القمة المقبلة سوى باستنتاج أن الاقتصاد العالمي هو معادلة صفريةZero Sum Equation، كي يكسب أحد أفراده، فعلى غيره أن يدفع الثمن، وبأن مجموعة العشرين قد لا تغدو قريباً منصة لإدارة الاقتصاد العالمي، كما تأمل الصين هذا العام. باحث بوحدة الدراسات الاقتصاديةمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية