يتفق كثير من خبراء العلاقات الدولية على أن النمو الاقتصادي المذهل في عدد من الدول الآسيوية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، ربما يقود إلى أن يصبح القرن الحادي والعشرون قرناً آسيوياً بامتياز، ويرشحون الدول الآسيوية الكبرى للسيطرة على القرن الحالي من الناحيتين الاقتصادية والسياسية، خاصة إذا ما استمر معدل نموها الاقتصادي والسكاني على نفس الوتيرة التي حدثت خلال السنوات الثلاثين الأخيرة، ويدعم هذه النظرة وجود تراجع نسبي في مكانة الولايات المتحدة في العالم لمصلحة الدول الآسيوية الصاعدة. هذا التصور فرض نفسه على صانع السياسة الخارجية المصرية الجديدة والمتوازنة التي كانت إحدى أهم أولويات العهد الجديد في مصر بعد تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي مسؤوليته، الذي بدأ على الفور عملية إصلاح العلاقات الخارجية واستعادة الزخم مع الشركاء الدوليين على عدة محاور، فقد وجه مؤسسة الدبلوماسية أولاً إلى إجراء اتصالات حثيثة للحفاظ على الشراكات التقليدية مع الدول الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وأوروبا، ومواجهة سيل الأكاذيب ضد التحول العميق في مصر بعد 30 يونيو سنة 2013، وواجه بنفسه أحاديث مغلوطة في الدوائر الغربية، كانت تنظر إلى ما جرى في مصر بعيون متحيزة سواء في الولايات المتحدة أو بريطانيا أو فرنسا وألمانيا، كما وضعت السياسة الجديدة على محور آخر أولوية واضحة لبناء علاقة جديدة مع روسيا التي وقفت موقفاً تاريخياً مع إرادة المصريين، وساندت المواقف الرسمية لمصر في محافل دولية عديدة، وبالمثل طورت مصر علاقاتها مع إيطاليا والصين والهند في إطار من المشاركة الإيجابية الفاعلة. ولا خلاف على أن تنوع زيارات الرئيس السيسي الخارجية، شرقاً وغرباً، دليل قوي على تطور السياسات الخارجية المصرية، وتأكيد وقوف مصر على مسافة واحدة من جميع الدول، غير أن هناك مجموعة من الأهداف والمصالح، التي ترتكز على الشقين الاقتصادي والاستثماري، تتطلع مصر إلى تحقيقها عبر سياستها الجديدة. الصعود الاقتصادي والسياسي الآسيوي يطرح فرصاً كبيرة لتحقيق التنمية في مصر، سواء من حيث جذب الاستثمارات الآسيوية للمشاركة في المشروعات القومية الكبرى أو في المشروعات الإنتاجية والخدمية التي توفر فرص العمل للأيدي العاملة المصرية، أو من حيث إمكانية زيادة الصادرات المصرية إلى الأسواق الآسيوية ذات الكثافة السكانية العالية، أو جذب مزيد من السائحين الآسيويين إلى مصر، خاصة مع ارتفاع مستويات الدخل في هذه الدول إلى معدلات أعلى، كما يوفر أيضاً فرصاً كبيرة لتعزيز التبادل العلمي والتكنولوجي بين مصر والدول الآسيوية الكبرى. وتأتي الزيارات الآسيوية التي أخذت الرئيس إلى دولة تلو الأخرى في الشهور الأخيرة لتعبر عن التوجه المصري الجديد ناحية الشرق، ولتؤكد في الوقت نفسه على العمق التاريخي في العلاقات بين مصر والدول الصديقة في شرق وجنوب آسيا، وكان بادياً للعيان أن العنوان الأبرز للزيارات الخارجية والمحادثات الرفيعة المستوى بين الرئيس المصري وقادة هذه الدول هو الدبلوماسية الاقتصادية التي تهدف إلى بناء أسس الشراكة مع دول عديدة تدفع بمزيد من الاستثمارات إلى شرايين الاقتصاد المصري. جولة الرئيس عبد الفتاح السيسي للقارة الآسيوية، التي بدأت محطتها الأولى في دولة كازاخستان ثم اليابان وكوريا الجنوبية، استهدفت من ناحية تفعيل استراتيجية مصرية تسعى للمزيد من الانفتاح على أبرز شركائها الدوليين وتنويع شبكة علاقاتها الخارجية وتحقيق نهضة اقتصادية تدعم نجاح المسار السياسي، لتصبح مصر أحد أهم نماذج التحول الديمقراطي في المنطقة، رغم ما تواجهه من تحديات، وأكدت من ناحية ثانية نقطة الارتكاز الثانية في سياسة مصر الخارجية بعد تحسين العلاقات مع إفريقيا، وعززت البعد الآسيوي في سياسة مصر الخارجية، بوصفها الجولة الثانية من نوعها بعد جولة العام الماضي التي شملت الصين وإندونيسيا وسنغافورة والهند، ولا شك أنها نجحت في إرساء دعائم علاقات مصرية آسيوية متطورة تسهم في دعم الاقتصاد الوطني، وجذب الاستثمار الخارجي، وتمهد الطريق أمام الاستفادة المصرية من الخبرات الآسيوية في مجالات أساسية يحتاج إليها الاقتصاد والمجتمع المصري، مثل الصحة والتعليم والبنية التحتية والطاقة والكهرباء والبحث العلمي والتأهيل المهني. عكست الجولة الآسيوية مدى حرص القيادة السياسية على تعزيز العلاقات الثنائية في مجال التعاون الاقتصادي، وقد جاء التوجه لدولة كازاخستان متفقاً مع طبيعة التحديات التنموية التي تواجهها مصر في المرحلة الراهنة، والتي يأتي على رأسها تحقيق أمن الطاقة، حيث تعد كازاخستان من أهم الدول النفطية، بالإضافة إلى القدرات النووية المستخدمة بالمجال السلمي، وتمتلك أيضاً مستودعات من العديد من المنتجات التعدينية الأخرى المستخدمة في إنتاج الطاقة، كما أن التعاون الثنائي مع كازاخستان يصب في خدمة الأمن الغذائي وتنويع مصادره وبأسعار أقل، حيث تعتبر كازاخستان أحد أكبر منتجي ومصدري الحبوب في العالم، وتلائم التربة والمناخ إنتاج العديد من السلع التي تساعد في سد الفجوة الغذائية في مصر. ملامح النموذج التنموي المصري تتشابه حالياً مع مراحل التنمية في كازاخستان من حيث تبني استراتيجيات تنموية طويلة الأجل كازاخستان2050 اعتماداً على تطوير آليات السوق الحر، والاندماج في مسار التجارة العالمي والنفاذ إلى أسواق السلع والخدمات العالمية، فضلاً عن إنشاء عاصمة إدارية جديدة حديثة، كما كانت كازاخستان الأولى من بين بلدان رابطة الدول المستقلة في اعتماد استراتيجية تطوير الاقتصاد الأخضر بغرض تحقيق التنمية المستدامة مع الأخذ في الاعتبار الأبعاد البيئية والاجتماعية والاقتصادية والتقنية أو الإدارية. جولة الرئيس السيسي الآسيوية في شقها الثاني بزيارته إلى اليابان حققت أهدافاً كثيرة في سبيل تطوير العلاقات الثنائية مع دولة تمثل ركيزة كبرى في الاقتصاد العالمي، وصاحبة تجارب عملاقة في التعليم وبرامج التنمية، ودشن الجانبان خلال الزيارة ما يمكن تسميته ب علاقة استراتيجية تنموية، حيث أظهر الجانب الياباني رغبة صادقة في دعم مصر في كل المجالات التي تحتاج إليها للنهوض والتنمية والتقدم، وربما تعد تلك هي ثالث علاقة استراتيجية من نوعها يبنيها السيسي بعد تدعيم العلاقات مع كل من الصين وروسيا الاتحادية. على صعيد التبادل التجاري بين مصر واليابان، حيث يصل حجم التجارة البينية ل 1.4 مليار دولار، منها 150 مليون دولار صادرات مصرية لليابان و73 مليون دولار صادرات غير بترولية والباقي صادرات يابانية لمصر، وقد أظهر الجانبان رغبة في تحقيق توازن من خلال زيادة حجم الصادرات المصرية للسوق الياباني في الوقت الذي جرى الاتفاق فيه على أن أكثر من 70% من الشركات اليابانية العاملة في مصر تعتزم زيادة استثماراتها في الاقتصاد المصري، بالإضافة إلى الاتفاق مع رئيس الوزراء الياباني على تأسيس شراكة مصرية يابانية للتعليم من أجل تطبيق نظام التعليم الياباني في المدارس المصرية، فضلاً عن تقديم 2500 منحة على مدار خمس سنوات للطلاب والمتدربين المصريين لإعداد الكوادر البشرية المصرية والمساهمة في تنمية مهاراتهم. كوريا الجنوبية المحطة الأخيرة في جولة السيسي الآسيوية، تحتل وزناً نسبياً مهماً في هيكل التجارة الخارجية لمصر، حيث تمثل الصادرات السلعية نحو 15% على حين تبلغ الواردات السلعية 10% مما يعني أن الميزان التجاري لصالح مصر، وقد شهدت الاستثمارات الكورية في مصر اتجاهاً تصاعدياً منذ عام 2013، حيث ارتفعت بنسبة 64٪ في سنة 2015، ومثلت الزيارة فرصة جديدة للتقدم على طريق التعاون بين البلدين وجرى التوقيع على عدد من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم منها اتفاق إطاري لتنظيم إتاحة القروض الكورية إلى مصر، ومذكرة تفاهم بشأن إتاحة حزمة تمويلية لمصر بقيمة 3 مليارات دولار، ومذكرة تفاهم للتعاون بين وزارة التعليم العالي المصرية ووزارة التعليم الكورية، وأخرى بين وزارتي العدل، وبين وزارتي الصناعة والتجارة في البلدين، ومذكرة تفاهم للتعاون بشأن تطوير ميناء الإسكندرية، وإنشاء الكلية المصرية الكورية للتكنولوجيا، واتفاق قرض بين سكك حديد مصر وبنك التصدير والاستيراد الكوري، ومشروع تطوير نظم إشارات السكك الحديدية من نجع حمادي إلى الأقصر. البعد السياسي لم يغب عن جولة السيسي الآسيوية، ولعل أهم نتائج هذه الجولة تتمثل في التواجد المصري بالمنطقة الآسيوية، بما يخدم المصالح المصرية العليا، ولعل الأثر الأبرز الذي تحقق من فعاليات هذه الجولة، هو إعادة تقديم مصر لهذه المنطقة، خاصة أنها تجلس حالياً على مقعد عضو غير دائم في مجلس الأمن، وتتطلع إلى بذل الكثير من الجهد والمشاركة في المنظومة الدولية، وعلى صعيد قضايا العالم الملحة.