اهرب يا صديقي إلى الأمام فالماضي يطاردك. هذه الجملة كانت شعار طلبة الجامعات الغربية في السبعينات كفعل مضاد للتدخلات العسكرية والسياسية في فيتنام وكوبا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، وتحولت إلى أهزوجة تبدأ بها أغاني الشباب المطالبين بالمشاركة في صنع المستقبل. كانت أغاني كثيرة وعاطفية يصاحبها العزف على القيتار، تلك الآلة الوترية المفضلة لأهازيج الشباب في أكثر دول العالم التي تتقبل العزف في الشوارع والميادين والمناسبات العامة. الآن تحولت تلك الأهازيج إلى تاريخ حقوقي يدرس للتلاميذ. كان لشعارات الشباب في الغرب في السبعينيات الميلادية تأثير كبير على السياسات العامة، الداخلية والخارجية، وقدمت أحد العوامل المهمة ضد حرب فيتنام والتدخل الأمريكي في كوبا وشكلت ضغطا أخلاقياً على المعسكر الغربي لإيقاف التعامل الاقتصادي والعسكري مع حكومة جنوب أفريقيا العنصرية. ماهي المعاني المستبطنة داخل الحث على الهروب إلى الأمام ؟. الرمز في الأهزوجة تمثل آنذاك في وصف رجل الأمن بالماضي الذي يطارد المستقبل ليمسك به من تلابيبه ويعيده إلى الخلف. الخلف يعني احتمال العودة إلى فضاعات الحرب العالمية الأولى والثانية والفاشية الحزبية وحروب الهيمنة الاقتصادية والتمييز العنصري، وكانت الشبيبة الأوروبية آنذاك تلوم أجيالها السابقة على الإنصياع للنازية والفاشية والمكارثية والعنصرية العرقية. إذا ً، الماضي الذي يستحق الهروب منه بالنسبة لشباب الغرب كان الحروب المدمرة وسيطرة التغول الرأسمالي المتشابك مع الجبروت العسكري، وهم لا يريدون العودة إلى ذلك الماضي المرعب. مقارنة بالغرب، لا يوجد في دول العالم الأضعف اقتصاديا ً وعسكريا ً جبروت عسكري ولا قوة اقتصادية مرهوبة الجانب، بحيث تجعل هذه الدول تفضل الماضي على المستقبل، ولكن قد توجد عوامل أخرى. الارتباط واضح بين التقدم العلمي وما يقدمه لصانعه من تفوق عسكري واقتصادي، وهو العامل الذي يفتح الشهية لابتلاع الدول الأضعف والهيمنة على شعوبها وثرواتها ومحاولة إبقائها هزيلة لأطول مدة ممكنة. للإنصاف، هذا هو التاريخ البشري منذ بدايات المجتمعات والدول، ولكن هل لحالات الضعف العلمي والعسكري في مجتمعاتها آلية مشابهة في الهدف ومختلفة في التعليل، لتكريس الماضي ومنع الهروب إلى المستقبل ؟. أعتقد نعم، آلية محاولة الإمساك بالمستقبل من تلابيبه وإبقائه في الماضي موجودة في كل دول العالم التي لم تحقق بعد قفزة النمور المطلوبة نحو المستقبل وهي التي تعطل هذه القفزة. إذا كانت أهزوجة التشجيع للهروب نحو المستقبل في الغرب ولدها الخوف مما سببه الماضي من حروب وتدمير وإلغاء للحريات، فماهو السبب للخوف من المستقبل في المجتمعات الضعيفة ؟. أعتقد أن السبب هو القناعات التقليدية بأن المستقبل لا يمكن أن يكون أفضل من الماضي، بل وأن هذا الماضي الحالي كان له ماض أفضل منه، بالإضافة إلى الاعتقاد بأن المستقبل يضمر الشر لكل ماهو نقي وخير في المنظومات المعيشية والأخلاقية السائدة، والأهم من ذلك أن تكون الأغلبية الجماهيرية تصدق هذه المخاوف والقناعات. هنا يأتي الدور الحاسم للقيادات السياسية الواعية والحكيمة، لأنها هي الوحيدة التي تستطيع من خلال فتح الحوار الحر والبناء واختيار الطواقم الوطنية الكفؤة من كل التيارات، أن تقنع الجميع بما هو الأفضل للجميع، ونحن لدينا بحمدالله هذا النوع من القيادة الحكيمة والواعية التي تعدنا بمستقبل أفضل.