تصاعدت انتهاكات جهاز الشرطة في مصر بشكل لا مثيل له، وهناك عشرات التقارير المحلية والدولية التي توثق هذه الانتهاكات. ومن السهولة إزاء هذا الحديث عن ضرورة إعادة هيكلة الشرطة -وفي الأدراج وعلى المواقع الإلكترونية عشرات البرامج والأفكار التي وضعها متخصصون ورجال شرطة وطنيون منذ ثورة يناير- أن تعد الحكومة بإصلاحات هنا أوهناك للتنفيس فقط في الوقت التي بنت فيه بمليارات من الجنيهات 9 سجون جديدة في 30 شهرا. لكن الحل في اعتقادي يحتاج إلى أن تكسب الثورة أولا معركتها الحقيقية في تغيير جوهر السلطة وطبيعة نظام الحكم، ووصول طليعة وطنية للسلطة وامتلاكها الإرادة والقدرة على التغيير، وهذا بدوره يحتاج إلى دعم فئات شعبية واسعة للتغيير وكسب تأييد قطاعات من داخل جهاز الشرطة ومن بقية مؤسسات الدولة أيضا. حماية من؟ جهاز الشرطة -مثله مثل مؤسسات أخرى بالدولة - هو أداة من أدوات السلطة التنفيذية، ووظيفته الوحيدة هي توفير الأمن للناس عن طريق تطبيق الدستور والقانون. " لم تفهم النخب السياسية بمصر بعد أنه في معظم حالات التغيير الناجحة يكون تركيز الخطاب السياسي لأي حركة تغيير على أصل المشكلة لا على الأعراض، ولا على الأدوات التي استخدمها الحكام للبقاء، ولا على أهداف كبرى أخرى لا يمكن التفكير فيها إلا بعد بناء نظام سياسي وطني في الداخل " يخضع هذا الجهاز، في الدول الديمقراطية الحديثة للدستور والقانون وينجح في تحقيق وظيفته بدرجات مختلفة، فهناك دول ديمقراطية لا تزال تعاني من مستوى عال من الجريمة المنظمة ومن انتهاكات حقوق الإنسان لأسباب كثيرة كالتفاوت الاجتماعي والاقتصادي ودور الإعلام والفن وغير ذلك. أما في الدول المستبدة بأشكالها المختلفة، فالحاكم (فرد مستبد، أو عصابة، أو مجلس حكم عسكري، أو حزب واحد..) يسيطر على جهاز الشرطة ويحوله من أداة تنفيذية تحترم الدستور والقانون إلى أداة تابعة للحاكم ولا تتقيد إلا برغباته، ويغير وظيفة الجهاز من تحقيق الأمن للمواطنين إلى تحقيق أمن الحاكم والفئات المرتبطة به فقط. ولا ينجح الحاكم في تحقيق هذه السيطرة إلا باختراق الجهاز والسيطرة عليه، وتطبيع الفساد داخل قطاعات كثيرة منه، وتغيير وظيفته إلى حماية النظام الحاكم، عبر وسائل متعددة منها تفريغ نظم التعليم من محتواها داخل أكاديميات الشرطة، وإفساد نظم الترقيات لضمان ولاء القيادات، ووضع نظم للمكافآت والبدلات لشراء ذمم الناس، وحماية أعضاء الجهاز من المحاسبة القانونية، وإضعاف أجهزة الرقابة، وتقنين الفساد وغير ذلك. وهذا النوع من أجهزة الشرطة يكون الهدف الأول لأي انتفاضة أو ثورة شعبية لأنه يكون واجهة النظام وعصاته الغليظة، تماما كما حدث في 25 يناير وفي انتفاضات وثورات أخرى سابقة. وعلى ذات النمط يتعامل الحاكم -بأشكال وأهداف متباينة- مع بقية مؤسسات الدولة الأخرى من جيش وقضاء وأجهزة رقابة وجامعات ومؤسسات ثقافة ومؤسسات دينية وإعلام ونقابات، حيث يتم اختراقها وإفسادها وتغيير وظائفها، مما يجعلها أداة من أدوات الحكم المستبد، ويحولها إلى مؤسسات غير قابلة للإصلاح. والأنظمة درجات في هذا الأمر، فهناك نظم لا تُفسد كل المساحات في المجتمع ولهذا فعندما يحين وقت التغيير تكون هناك إمكانية للإصلاح التدريجي كما حدث في بعض الدول في جنوب شرق آسيا وشرق أوروبا وأميركا اللاتينية. لكن هناك نظم يقوم حكامها بإفساد كل المساحات وتقسيم المجتمع وتقنين الامتيازات وزرع كافة أنواع الحقد والتعصب والاستقطاب، ولهذا فهذه الأنظمة لا تكون قابلة للإصلاح وغالبا ما تتغير بطرق عنيفة (انقلاب، حرب أهلية، ثورة شعبية، عصيان مسلح)، كما حدث ويحدث لمعظم أنظمة الحكم الفردي والعسكري في أفريقيا والعالم العربي وبعض الدول الآسيوية. معالجة أصل المشكلة يكون أمام دعاة التغيير خيارات عدة لتغيير هذه الأوضاع. فهناك الخيار الثوري والعمل من أجل التغيير الشامل في القيم والأنظمة وتطهير كل المؤسسات والقضاء على الفساد والفاسدين بالضربة القاضية. وهذا بالطبع يحتاج إلى ثورة شاملة وإلى عوامل متعددة أهمها الرؤية والقيادة وامتلاك الثوار السلطة والقوة وغير ذلك. " لابد أن يفهم رجال الشرطة شكل جهاز الشرطة الحقيقي ومخاطر هيمنة الحكام على هذا الجهاز وإقحامه في صراع مع الشعب، ولابد أن يفهم رجال القوات المسلحة الوظيفة الحقيقية لهم ومخاطر توظيف مؤسستهم سياسيا وإقحامها هي الأخرى في خصام مع الشعب " وهناك طريق آخر هو محاولة كسر إستراتيجيات الحكام للبقاء والهيمنة وصولا إلى ذات التغيير الشامل في القيم والأنظمة والممارسات، أو إلى الثورة الشاملة، وذلك عن طريق فهم أصل المشكلة، وهي النظام الحاكم أو الحكام، وتوجيه الغضب إلى هؤلاء الحكام تحديدا، فهم الذين اخترقوا كل مؤسسات الدولة والمجتمع وأفسدوها، وحولوا وجهتها لتحقيق وظائف تختلف عن وظائفها الأصلية. أي يكون الممكن هو خلخلة تحالفات النظام الداخلية، وتقوية المجتمع بقواه الاجتماعية والسياسية، وتوعية وحشد الجماهير، وتبني خطاب سياسي يقوم على التمييز داخل كل مؤسسة من مؤسسات الدولة بين الأنظمة والقوانين والممارسات الفاسدة وكل من يتقيد بها من أفراد وقيادات من جهة، وبين من لا يجد بديلا عن الخضوع والسكوت من جهة أخرى. فالشرطة -مثلها مثل بقية المؤسسات الأخرى الفاسدة أيضا- تضم فاسدين يستغلون مواقعهم ويجاهرون بفسادهم، وصالحين مغلوبين على أمرهم وينتظرون تغيير الواقع الفاسد. إن هذه المؤسسات لم تولد فاسدة، وإنما تم إفسادها تدريجيا من قبل الحكام، وتم استخدامها ضمن إستراتيجيات هؤلاء الحكام للبقاء والسيطرة على المجتمع. كما أنه لا غنى عن هذه المؤسسات وعن ضرورة إعادة هيكلتها وبنائها على أسس جديدة تماما، بما يعزز دولة القانون والمؤسسات وبما يقوي هذه المؤسسات ويُمكنها من أداء أدوارها الحقيقية. لابد أن يفهم رجال الشرطة شكل جهاز الشرطة الحقيقي ومخاطر هيمنة الحكام على هذا الجهاز وإقحامه في صراع مع الشعب، ولابد أن يفهم رجال القوات المسلحة الوظيفة الحقيقية لهم ومخاطر توظيف مؤسستهم سياسيا وإقحامها هي الأخرى في خصام مع الشعب، ولابد أن يفهم أساتذة الجامعات والقضاة وموظفو الدولة وغيرهم ذات الشيء. هذه هي مهمة المثقفين ودعاة التغيير والثوار وكل من يتصدى للعمل العام. لم تفهم النخب السياسية في مصر بعد أنه في معظم حالات التغيير الناجحة يكون تركيز الخطاب والبرنامج السياسي لأي حركة تغيير على أصل المشكلة وليس على الأعراض الناتجة عنها، ولا على الأدوات التي استخدمها الحكام للبقاء، ولا على أهداف كبرى أخرى لا يمكن التفكير فيها إلا بعد بناء نظام سياسي وطني في الداخل. ففي جنوب أفريقيا كان التركيز على الحقوق المدنية والمساواة في التمتع بها، وفي شرق أوروبا كان إقرار التعددية وكسر احتكار الحزب الواحد للحياة السياسية، وفي أميركا اللاتينية كان إخراج العسكريين من السلطة وإقامة حكم مدني ديمقراطي. وهذه الأهداف تمت ترجمتها في الواقع -بعد نجاح الانتقال وتغيير الأنظمة- إلى عمليات إعادة هيكلة حقيقية للمؤسسات المختلفة من شرطة وأجهزة رقابة وغيرها ضمن حكم دولة القانون والمؤسسات الديمقراطية وحسب رؤى محددة، لكن الخطاب السياسي للسياسيين كان خطابا إيجابيا وغير معاد لمؤسسات الدولة أثناء مرحلة النضال من أجل تحقيق الانتقال. " لم يطالب السياسيون في مجتمعات ثارت قبلنا بهدم وزارة الداخلية، ولم يعبر البعض عن عدم الحاجة إلى المؤسسة العسكرية، فهذا النمط من الخطاب يطيل عمر الاستبداد لأنه يدفع هذه المؤسسات لمزيد من التحالف مع الحكام المستبدين خوفا من خطاب يهددها " لهذا لم يطالب السياسيون هناك بهدم وزارة الداخلية -كما ينادي البعض عندنا- ولم يعبر البعض عن عدم الحاجة إلى المؤسسة العسكرية -كما يعتقد البعض الآخر- فهذا النمط من الخطاب السياسي يطيل عمر الاستبداد في واقع الأمر لأنه يدفع هذه المؤسسات إلى مزيد من التحالف مع الحكام المستبدين خوفا من خطاب يهددها ويتوعدها. أساس التكتل إن الهدف القادر على جمع صفوفنا وتحقيق أهداف ثورتنا هو هدف ذو مطلبين: الأول مطلب ينجح في كسب الأنصار من كافة فئات المجتمع ومن كل مؤسسات الدولة بما في ذلك مؤسسات الشرطة والجيش والقضاء وغيرها. وأعتقد أن هذا الهدف هو إنهاء دولة الأجهزة السرية والامتيازات والفساد وكسر احتكار عصبة صغيرة للسلطة والثروة وإنهاء هيمنتها على الشعب وعلى مؤسسات الجيش والشرطة والقضاء والجامعات والإعلام وإنهاء التوظيف السياسي لهذه المؤسسات. والثاني مطلب يحدد معالم النظام البديل للحكم البوليسي الإقصائي، وهو الحكم المدني الديمقراطي الذي يقوم على سيادة الشعب وحكم القانون والمساواة أمامه، وحماية كرامة الإنسان وحرياته وقيم المجتمع وهويته، وتحقيق العدالة الاجتماعية وتوفير المستوى المعيشي والحياة الكريمة لكل المواطنين بلا تمييز، والذي يعيد مؤسسات الدولة إلى القيام بوظائفها الأصلية دون توظيف سياسي ودون تحزيب أو أدلجة. إن توعد مؤسسات الدولة التي توظف ملايين من العاملين وملايين أخرى من أسر وأهالي هؤلاء العاملين وتصدير هذه المؤسسات في أجندة التغيير أمر يؤخر معالجة مشكلاتنا ويوسع الهوة بين أهداف الثورة وبين قطاعات غفيرة من المواطنين يريدون بالفعل أن يكونوا جزء من الثورة، غير أن خطاب السياسيين يبعدهم عنها. لابد أن تكون للثورة معادلة وسردية وخطاب قادر على أن يدفع قطاعات كبيرة من الجماهير ومن داخل مؤسسات الدولة إلى الوقوف في صفها ويجعل البديل الذي تقدمه الثورة من مصلحة هذه القطاعات.