على قارعة الطرق الريفية عالية الحركة في منطقة القبائل الجزائرية، يتوقف مئات من العابرين بسياراتهم لاقتناء تحف وأوان طينية من صنع منزلي، تنزل عائلات بأكملها إلى محال متواضعة بشكل أكواخ من الخشب والقش والصفيح، تنتشر على طول كيلومترات لتختار ما يناسبها خاصة في مواسم العُطَل، حيث يكثر السياح الأجانب والمغتربون الجزائريون المقيمون في أوروبا، كما يكثر الإقبال عليها قبيل شهر رمضان، كون كثيراً من العائلات الجزائرية، تفضل استقبال هذه المناسبة الكريمة بأوان جديدة، القائمون على تلك المحال على العموم شباب اختاروا هذه التجارة، إما لشغفهم بالصناعة الطينية التقليدية، كونها موروثاً محلياً، أو لكونها السبيل الوحيد المتاح لكسب الرزق، وبفعل التجربة والاحتكاك مع نساء ورجال يمارسون بناء أدوات طينية، صار هؤلاء الشباب يتحكمون في خبايا هذه الصناعة ويشرحونها بالتفصيل للمارة والزبائن الذين يتوقفون عند محالهم بالمئات كل يوم، ومنهم حتى من يدخل في تفاصيل أهميتها الصحية، لأنها طبيعية وخالية من كل ما يمكن أن يؤذي الجسد على خلاف أنواع من الألمنيوم والحديد. وازدهرت تجارة الأواني الطينية بشكل غير مسبوق في السنوات الأخيرة بالنظر للتطور المذهل الذي حدث على أشكالها وألوانها، وتبعا لذلك انتشرت ورش صناعتها في الأوساط الشعبية وامتدت إلى جهات كثيرة خارج المناطق ذات الأغلبية البربرية كالقبائل والأوراس التي كانت تحتكرها، وصارت تصنع في تلمسان على الحدود المغربية وتبسة على الحدود مع تونس. وقد أحصى مكتب بولاية البويرة (120 كلم شرق العاصمة) ما يزيد على 400 نوع من الأواني والتحف الفخارية المصنوعة بالطرق التقليدية من الطين، أبدعتها أنامل نساء منطقة القبائل، ثم صارت آلات حديثة تنتج منها المئات يومياً. شغل النساء الأواني التي تصنع بشكل تقليدي، هي عموماً شغل نساء، ومعظم الصانعات بدأنها في الصغر، ثم صارت حرفة ومصدر عيش، وتجلب النساء التراب الخاص ببناء الأواني قبل طلوع الشمس من أماكن محددة، فليس كل الأتربة صالحة لهذا الغرض، تراب بناء الأواني مثل المعدن، وحين يجف التراب، يدك بمدك خشبي، ثم يمرر في غربال خيوطه من جلد، ويصفى قبل أن يخلط بماء يجلب من الوادي، أو منبع طبيعي وفي إناء غير معدني، ويعجن حتى يشبع الماء ثم تبدأ عملية البناء الفني للأواني بمختلف الأحجام، منها ما هو للطهي، كالقدر وطاجين الكسرة، ومنها ما هو للمائدة كالصحون، ومنها أيضاً الأواني الكبيرة، التي تستخدم عادة لتخزين زيت الزيتون أو الماء، وتعرض المصنوعات للشمس إلى أن تجف تماماً، ثم تحرق في فرن تقليدي خاص بنار مشكلة في معظمها من روث الأبقار المجفف خصيصاً لهذا الغرض، فيتغير لونها من الترابي إلى البرتقالي، وتبدأ عملية فنية جديدة من الزخرفة ورسم الرموز عليها بخلط ألوان من مواد طبيعية، وعندها فقط تصبح صالحة للاستعمال، ولا يؤثر فيها الماء ولا النار، ويقول العارفون بتاريخ هذه الصناعات إن الرموز التي تحملها لها دلالات وأبعاد ثقافية، توارثها الجزائريون، خاصة سكان المناطق الناطقة بالبربرية منذ قرون، وهي في الأغلب حروف من الكتابة الليبية القديمة أو تيفيناغ التي استخدمها سكان شمال إفريقيا قديما، ولا يزال عدد كبير من بربر الصحراء الإفريقية الكبرى، خاصة التوارق في الجزائر وليبيا ودول الساحل الإفريقي يستخدمونها في كتابة الرسائل والعقود، وما إليها. آيلة للزوال ويرى سالم وهو شاب في الثالثة والثلاثين من عمره، يقوم بهذا النشاط منذ تسع سنوات، أن هذه الحرفة بشكلها التقليدي آيلة للزوال، وأرجع ذلك لعاملين رئيسيين أولهما أن تحسن مستوى المعيشة في الأرياف جعل كثيراً من العائلات تقلع عن هذه الحرفة، لوجود بدائل ومعظم النساء متعلمات، ولم يسخرن وقتاً في صغرهن لتعلمها، وثانيهما أن الآلة، اجتاحت الميدان وصارت تعوض عمل اليد، فقد سيطرت ورش الإنتاج التي زرعها مستثمرون في ولايات معروفة بهذا النشاط على السوق، وتسببت الوفرة في كسر الأسعار، ما ضغط على العائلات التي كانت تمتهنها، وأبعد الكثير منها عن الساحة لقلة الموارد وقوة المنافسة، كما أن ثمة عاملاً جديداً دخل على الخط، وهو تسويق منتجات طينية تونسية بأسعار أقل من مثيلتها الجزائرية، وبحكم تجربته الطويلة في الاتجار بهذه المصنوعات، أكد أن المشترين نوعان، منهما من يقتني أواني طينية للاستعمال المنزلي، ويكثر الإقبال خاصة على الطاجين المستخدم للكسرة، والقدرة التي يفضل الكثير من الناس استخدامها لطهي الشربة، خاصة خلال شهر رمضان الكريم، بالإضافة إلى البوقال المستخدم لشرب الماء، لأنه يطلق طعماً خاصاً، ويحافظ على درجة برودة الماء بشكل طبيعي من دون الحاجة إلى ماء الثلاجة، ولا تزال عائلات قروية كثيرة خاصة في منطقة القبائل وأقصى غرب الجزائر، تستخدم الصهاريج الفخارية الكبيرة من فئة 50 إلى 200 لتر لتخزين زيت الزيتون، وتسمى تلك الصهاريج الزير، ومن العائلات من توارثتها عن الأجداد، ويفضل كثير من المشترين خاصة المسنين، الأواني المصنوعة بأنامل النساء على تلك التي تنتجها الآلات الحديثة، ويقولون بأن رونقها وقيمتها في طريقة صناعتها، ويتحدث كبار السن من القوريين أو من قضوا جزءاً من حياتهم في الريف بحنين للأيام الخوالي، حين كانت الكسرة تحضر على طاجين من طين، وعلى نار حطب البلوط اليابس، والشوربة في قدر من طين، ويتناولونها في صحن من طين أيضاً، وبملعقة يصنعونها بأنفسهم من خشب الزعرور أو الجوز أو اللوز. كثيرون يرون أن هذه التشكيلة من الأواني الطبيعية، تبعد الأمراض جميعا، وتجعل الطبيب والعلاج والدواء مجرد عبارات في القاموس، ولا دور لها في الحياة، فالأواني البلاستيك والألمنيوم والحديد بالنسبة لهم، مسؤولة عن الكثير من الأمراض الداخلية، ومع أن بعضهم يرسم مستقبلاً قاتماً لهذه الصناعة التقليدية الممتعة، بعد دخول الآلة وسماسرة التجارة الكبيرة فيها، إلا أن آخرين يعتقدون أنها ستبقى ما بقي الطين، وما بقي الإنسان على تلك الأرض، لأنها تحتفظ برونق المصنوعات والتحف، بل وستشهد رواجاً أكثر بدليل أن أعداداً كبيرة من الشباب من الجنسين يتبنونها حرفة ومتعة في آن، وهم ضمان استمرارها ومقاومتها لعواصف التغيير.