الجامعات ومراكز أبحاثها تأتي في مقدمة المنظومة المسؤولة عن نهضة مجتمعها وترسيخ قيمه والالتزام بها وتنقية السلوك العام من مظاهر الانحراف، فالجامعة ليست مؤسسة «معزولة» في برجها العلمي، لا صلة لها بما يجري في مجتمعها من ظواهر. واقتصارها على مهمة تعليم طلابها وتطوير أبحاثها داخل المعامل يفقدها دورا أساسيا، وهو قيادة قاطرة تصحيح الأخطاء، كما يحرم مجتمعها من ثمرات عقول نخبة من أبنائه. ومن الملفت قلة معالجة هذه القضية في وسائل الإعلام التي تخاطب عامة الناس، وندرة تناولها من الكتاب الذين ينقدون مظاهر اختلالات القيم في الحياة العامة ويرصدون بواعثها وأسباب اتساع دائرتها. والحقيقة، لا أدري ما هو مصدر هذا العزوف. أمس، نشرت هذه الصحيفة حوارا مع مدير جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية «كاوست»، الأمريكي الذي كان يرأس واحدا من أشهر المعاهد العلمية في العالم «معهد كاليفورنيا للتقنية». وفي هذا الحوار، استوقفتني إشارات وجمل مهمة ــ في نظري ــ تتعلق بدور الجامعات ومسؤوليتها عن الالتزام بثقافة الجدارة. وسأقتبس من كلام مدير الجامعة ما أظنه مهما وجديرا باهتمام المعنيين بالتعليم الجامعي وانعكاس نتاجه على تطور اقتصاد وصناعة وقيم المجتمع. قال الدكتور جان لو شامو «جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية شيدت على أسس ومواصفات وقيم الالتزام بثقافة الجدارة والتميز وروح الاستكشاف والعاطفة الجياشة نحو ما فيه النهوض بمجالات العلوم والتقنية والإلهام نحو عصر جديد من الاكتشافات العلمية... إن العنصر الأساس لنجاح الجامعات هو التزامها الدؤوب بالتميز في التعليم والأبحاث وتشجيع المواهب وتمكينها من معالجة المسائل الهامة بشغف.. إن أكبر جامعات الابتكار في العالم لديها تناغم كبير بين الدافع للاكتشاف والرغبة الملحة في معالجة المشاكل المجتمعية المهمة ضمن بيئة بحثية تدعمها بيئة تشغيلية نشطة ترحب بالتفاعل مع مختلف المساهمين في الساحة الاقتصادية.. نحن في الجامعة مجتمع من صناع الأعمال غير التقليدية والقرارات الحاسمة».. أعلم أنه اقتباس طويل في مثل هذه المساحة، لكنه ضروري في هذا المقام؛ لأنه حديث خبير مارس إدارة العلاقة الناجحة بين أشهر الجامعات ومجتمعها، وبالتالي هو «مرجع» في هذا المجال الذي نريد أن ينال حظا من الاهتمام أكثر مما يناله حتى الآن. وقد لفت نظري في كلام الدكتور شامو تركيزه على الالتزام بثقافة الجدارة والدأب على التميز في التعليم والأبحاث وتشجيع المواهب وتمكينها من معالجة المسائل المهمة «بشغف»، ولكن الألصق بموضوع هذه السطور هو قوله «إن أكبر جامعات الابتكار لديها تناغم كبير بين الدافع للاكتشاف والرغبة الملحة في معالجة المشاكل المجتمعية المهمة».. وهذا «التناغم» هو الذي يفتقده الكثيرون في مجتمعنا، ويتساءلون عن أسباب ضعفه إن لم يكن غيابه، وهو ما ينبغي أن يكون هاجس جامعاتنا، وأن تسعى لخلقه وزيادة حضوره وتأثيره في الحياة وارتفاع صوته حتى يجلب إلى ساحته مؤسسات المجتمع وشركاته ومراكز إنتاجه. نريد جامعات تقود حركة الالتزام المهني، وتصحح الأخطاء السلوكية في نظرتنا للعلم، وتقدم القدوة في نقد الانحرافات التي تعرقل مسار حركة المجتمع، وتعالج ــ بجدية تليق بأهل الرأي ــ أسباب تلك الانحرافات. للتواصل أرسل sms إلى 88548 الاتصالات ,636250 موبايلي, 738303 زين تبدأ بالرمز 151 مسافة ثم الرسالة