قامت تركيا بغزو البلقان قبل خمسة قرون مضت، أما الآن فتشق طريقها إلى نفس المنطقة من خلال سبل تعتمد على الصداقة والود أكثر مما تعتمد على الآلة العسكرية، حيث شهدت السنوات الأخيرة افتتاح جامعتين، تديرهما أنقرة، في العاصمة البوسنية المتأثرة بالإمبراطورية العثمانية، في ظل تدفق الطلاب والثقافة التركية إلى ذلك البلد ذي الأغلبية المسلمة والذي لا يزال يعاني من حرب عرقية وحشية منذ ما يقرب من عقدين من الزمان. وعلاوة على ذلك، زادت الاستثمارات التركية في دول البلقان، بما في ذلك كرواتيا وصربيا التي يرى معظم سكانهما من المسيحيين أن سلاطين القسطنطينية كانوا محتلين وليسوا محررين. ولم تكتف أنقرة بذلك، ولكنها ساعدت في عقد مباحثات بين ألد الأعداء في المنطقة. وقد أعطى هذا الحضور المتنامي تركيا مزيدا من النفوذ في قارة أوروبا، في الوقت الذي تحوم فيه الشكوك حول انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. وقال أمير زوكتش، وهو مدير مكتب وكالة الأناضول التركية للأنباء في سراييفو والتي توسعت خلال الأشهر الأخيرة: «يعمل القادة الأتراك في إمبراطورية عثمانية جديدة، ولكن بشكل أكثر اعتدالا. تحاول تركيا استعادة قوتها الإقليمية السابقة بشكل كبير». لم يكن الوجود التركي في البوسنة ملموسا إلى حد كبير خلال الأربعين عاما الماضية حين كانت البوسنة جزءا من دولة يوغسلافيا الشيوعية، التي لم تكن تقبل النفوذ التركي الديني والتاريخي، ولكن عندما سقطت يوغسلافيا في التسعينات من القرن الماضي، بدأت المساعدات التركية تنهال على المسلمين الذين يشكلون نحو 50 في المائة من عدد سكان البوسنة. ومنذ ذلك الحين، كان للمساعدات التركية دور كبير في إعادة إعمار معالم الحقبة العثمانية التي كانت هدفا للتدمير بدافع عرقي. والآن، بات من الصعب تجاهل النفوذ الثقافي لتركيا في البوسنة، حيث تداوم الشخصيات التركية المهمة على زيارة سراييفو، كما يتم بناء سفارة تركية جديدة بالقرب من «ممر القناصة» الذي كان يشهد قيام القناصة الصرب المتمركزين بالقرب من التلال بإطلاق النار على المسلمين البوسنيين الذين كانوا يكافحون من أجل الذهاب إلى أعمالهم خلال الحظر الذي كان مفروضا على المدينة لمدة ثلاث سنوات. ويمكنك أيضا أن ترى اللافتات الإعلانية التي تروج للسفر إلى مدينة إسطنبول التركية مقابل ما يعادل 74 دولارا. وخلال العام الحالي، يجلس البوسنيون أمام شاشات التلفاز في شتاء البوسنة القارص لمشاهدة حلقات مسلسل عن حياة السلطان سليمان القانوني الذي حكم الإمبراطورية العثمانية في القرن السادس عشر. يتمثل أكبر وجود تركي في البوسنة في الجامعتين اللتين يشكل الأتراك الغالبية العظمى من طلابهما. ويتعين على طلاب جامعة سراييفو الدولية أن يدرسوا جيدا تاريخ السلطان محمد الفاتح، ذلك الحاكم العثماني الذي فتح البوسنة عام 1463. وتحظى تلك الجامعة الخاصة بدعم كبير من جانب رجال الأعمال الأتراك المقربين من الحزب السياسي لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان. وقد تم افتتاح تلك الجامعة الخاصة عام 2004 ويبلغ عدد طلابها الآن 1500 طالب. وتهدف الجامعة، من خلال افتتاح مبنى جديد، لزيادة طاقتها الاستيعابية إلى 5,000 طالب. ويتم التدريس في تلك الجامعة باللغة الإنجليزية من خلال منهج غربي يعتمد بصورة كبيرة على مواد عملية مثل الأعمال والهندسة، غير أن الطلبة الأتراك والبوسنيين يقولون إن أحد عناصر الجذب الرئيسية لتلك الجامعة يتمثل في التبادل الثقافي بين الجانبين، حيث يتعين على كل جانب تعلم لغة الجانب الآخر. وفي ما يتعلق بطموحات الجامعة، يقول نائب الرئيس الجامعة محمد هادزيابديتش، وهو بوسني مسلم: «ما جذب الأتراك للمجيء إلى هنا هو قناعتهم بأن البوسنة، على الرغم من كل مشكلاتها، سوف تنضم إلى الاتحاد الأوروبي قبل تركيا، ولذا فهم يرون هذا بمثابة جسر بين البلدين». ويراقب الطلبة البوسنيون تنامي الاقتصاد التركي باهتمام شديد، ولا سيما في ضوء معدلات البطالة المخيفة في بلدهم والتي وصلت إلى 46 في المائة من إجمالي عدد السكان، وهي النسبة التي تفوق نظيرتها في تركيا، في حين يقول الطلبة الأتراك، الذين يشكلون نحو 65 في المائة من إجمالي طلبة الكلية، إنهم ذهبون إلى البوسنة من أجل الاستمتاع بالحرية بعيدا عن القيود العائلية، كما عبر البعض عن نيته بالبقاء في البوسنة بعد الانتهاء من الدراسة وافتتاح مشروعات خاصة، حيث قال فاتح سيلكوك، وهو طالب في العام الدراسي الأول يبلغ من العمر 19 عاما قادم من مدينة إزمير التركية: «عندما كنت صغيرا كنت أتمنى السفر لإحدى الدول الأجنبية، وكنت أريد أن أتعلم إحدى اللغات. البوسنة كانت جزءا من الإمبراطورية العثمانية، ولذا فهي تشبه تركيا كثيرا. قال لي والدي إنه يتعين علي الذهاب إلى البوسنة والهرسك، لأنها سلافية ولكنها مسلمة». أما الجامعة التركية الأخرى في سراييفو فهي جامعة بورتش الدولية، التي تم افتتاحها عام 2008 والتي لها علاقة بالداعية الإسلامي التركي المعروف فتح الله كولن، الذي يدير حركة تعليمية ودينية دولية من ولاية بنسلفانيا الأميركية. ويتحدث مسؤولو جامعة بورتش أيضا عن رغبتهم في إقامة علاقات واتصالات بين تركيا ودول البلقان. ويكون طلبة جامعة بورتش أكثر تحفظا من الناحية الدينية، بعكس طلاب جامعة سراييفو الدولية الذين يدرسون مناهج علمانية. تأتي التوسعات التركية في المنطقة في الوقت الذي بات فيه الحلم التركي بالانضمام للاتحاد الأوروبي بعيد المنال، ولا سيما في ظل قلق بعض القوى الغربية، وعلى رأسها ألمانيا، من تدفق الشعب التركي – 74 مليون نسمة – إلى جميع أنحاء أوروبا بحثا عن فرص عمل، فيما يشكك بعض المسؤولين فيما إذا كانت تركيا ذات الأغلبية المسلمة هي دولة أوروبية من الأساس! أما البوسنة فتقع داخل أوروبا، ولذا فإن وجود تركيا المتنامي في المناطق الأوروبية التي كانت ذات يوم جزءا من إمبراطوريتها هو أحد السبل لتعويض استبعادها من الاتحاد الأوروبي، حسب بعض المحللين. وقد أغضب النفوذ التركي المتنامي بعض الصرب البوسنيين، الذين يصرون على تشكيل حكومة موازية في البوسنة في ظل النظام المعقد الذي تم فرضه بموجب اتفاقات السلام الموقعة عام 1995. وشكا مسؤولون من الحكومة الموازية من أن الجزء البوسني المسلم من البلاد سيقع تحت تأثير القوة الاستعمارية السابقة.