ينطوي تحديد تعريف دقيق للسلم والأمن الدوليين على صعوبات سياسية ومعرفية جمة، نظراً لتباين وتعدد الرؤى والمقاربات الواردة في هذا الصدد.. حتى إن ميثاق الأمم المتحدة المعنية الرئيسية بتحقيق هذا المطلب العالمي، جاء خالياً من تفسير محدد أو شرح دقيق لهذا المفهوم.. شكل تحقق السلام مطمحاً على امتداد التاريخي الإنساني الموسوم بالصراعات والحروب، حيث بادرت القبائل والمدن والإمبراطوريات والأمم منذ القدم إلى نسج علاقات تجارية ودبلوماسية وثقافية.. وأبرمت فيما بينها العديد من الاتفاقيات الثنائية والجماعية.. وفي عالم اليوم، أضحى تحقيق هذا الرهان مطلباً ملحاً وضرورياً، بالنظر إلى تفاقم الصراعات والنزاعات الدولية وظهور أسلحة أكثر فتكاً بالإنسانية، علاوة على بروز مجموعة من المخاطر الدولية الجديدة التي تتجاوز في تداعياتها حدود الدول، كما هو الشأن بالنسبة لتلوث البيئة، والفقر، وتهريب المخدرات، وندرة المياه وتفاقم الجريمة المنظمة، والإرهاب الدولي بكل أشكاله، والصراعات والنزاعات الإثنية، والأمراض المعدية والمميتة العابرة للحدود، وتجارة الجنس، والجرائم الإلكترونية والنزاعات المرتبطة بالتحولات الديمقراطية وانتهاك حقوق الإنسان.. والتي ألقت بتحدياتها القاتمة وإشكالاتها المعقّدة على مستقبل السلم والأمن الدوليين. تتعدد وتتنوع السبل الدولية الكفيلة بتحقيق السلام العالمي بين مداخل وقائية وأخرى علاجية، اعتباراً لتنوع طبيعة وخلفيات الأزمات والصراعات.. وقد تطورت هذه السبل على امتداد تطور العلاقات الدولية، كما أن ميثاق الأمم المتحدة يوفر نظاماً متكاملاً لتوفير المناخ اللازم لتحقيق هذا الرهان الإنساني، فبالإضافة إلى المبادئ التي تقوم عليها المنظمة في عملها مثلما هو الأمر بالنسبة لمنع استعمال القوة أو التهديد باستخدامها في العلاقات الدولية، وتسوية المنازعات بصورة سلمية، وتنفيذ الالتزامات الدولية بحسن نية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.. فقد ذكر الميثاق أيضا مجموعة من السبل السلمية للتعامل مع المنازعات والأزمات، فيما منح لمجلس الأمن صلاحيات تقديرية وازنة للتعاطي بصرامة مع مجمل التهديدات والخروقات التي تواجه السلم والأمن الدوليين. وفي عالم اليوم، حيث تمتد وتتصاعد التهديدات والأزمات، أصبح رهان تحقيق السلام مطلباً يسائل مجمل الفاعلين في الساحة الدولية من دول ومنظمات وشركات كبرى وشخصيات ونخب فكرية وسياسية وعلمية.. وأمام هذه المعطيات، أضحى من الضروري أن تلعب الرياضة أدواراً مهمة على طريق ترسيخ ثقافة الحوار والسلام والتسامح وتجاوز مختلف المآزق السياسية.. بالنظر إلى الشعبية التي أصبحت تحظى بها في أوساط المجتمعات. إن أهمية الرياضة تكمن في بعدها الإنساني والأخلاقي والتربوي والصحي الذي طالما رسخ قيم الود والتضامن والحوار والتواصل.. بعيداً عن مكر السياسة ومنزلقاتها، فهي مجال يمكن النشء من إبراز مقدراته وإمكانياته في إطار من التنافس والتكافؤ وفق قواعد وضوابط واضحة. وعلاوة عن كونها وسيلة للتفريغ والتسلية وإثبات الذات، مثلما هو الأمر بالنسبة للأدوار المفترضة للأندية الثقافية والمسارح والمعاهد الفنية..، فهي تربي الفرد على قيم الروح الرياضية والتسامح، التي تتجلى في مصافحة الخصم وتهنئته بالنصر، واعتبار الهزيمة محطة للوقوف على مختلف الأخطاء والمنزلقات ومكامن الضعف.. والسعي لتجاوزها مستقبلاً. استثمر إشعاع ونبل الرياضة بصورة منحرفة من قبل العديد من الساسة في التسويق لمشاريعها الهدامة ولتحقيق طموحاتها وتطلعاتها الخاصة في هذا الصدد، فقد وظفها كل من موسوليني وهتلر بشكل مكثف في الترويح لنظاميهما الفاشي والنازي، كما سعت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي (السابق) إلى توظيف المناسبات واللقاءات الرياضية في تأجيج الصراع الذي كان قائماً بينهما خلال فترة الحرب الباردة.. كما استغلّت الكثير من المناسبات الرياضية لتعبئة الأفراد وتوجيههم وشحنهم وإلهائهم بصراعات ومعارك وهمية أسهمت في تضخيمها وسائل الإعلام (عن قصد أو عن غير قصد).. وهو الأمر الذي أثر بالسلب في مسار الرياضة وأدّى إلى تحريفها عن أهدافها النبيلة، وجعل منها وسيلة لتمرير المواقف السياسية واستغلال مشاعر الجماهير خدمة لأغراض ضيقة. وفي مقابل ذلك، شكلت الكثير من المناسبات الرياضية فرصة لخدمة السلام، فبطولة العالم لكرة الطاولة (البينغ بونغ) التي انعقدت باليابان عام 1971 كانت مناسبة جيدة لتلطيف الأجواء المشحونة بين الصين الشعبية والولايات المتحدة الأمريكية وإرساء أرضية للحوار بينهما، بعد قطيعة دامت لأكثر من عقدين، ضمن ما سمي حينئذ بدبلوماسية البينغ بونغ. وخلال الدورة الأولمبية التي نظمت في بكين سنة 2008، حاولت الصين استثمار نجاحها في تنظيم هذه الدورة وتقدمها ضمن ترتيب الميداليات المحصل عليها، لتسويق صورة بلد متطور يسير باتجاه تأكيد تفوقه في مختلف الميادين والمجالات ويتجه نحو فرض قطبيته الصاعدة في مواجهة الانفراد الأمريكي بالساحة الدولية. فيما حاول بعض الفاعلين المحليين والغربيين في مجال حقوق الإنسان، استثمار هذه المناسبة الرياضية لطرح مشكلة التبت، والتنديد بما أسموه بانتهاكات النظام الصيني لحقوق الإنسان.. وقد دعت مختلف المنظمات الدولية كالأمم المتحدة.. إلى جعل الرياضة وسيلة لتلطيف حدة التوتر بين الدول، وتعزيز العلاقات بين الدول، وآلية للتقريب بين مختلف الشعوب، خدمة للسلام العالمي، في عالم يطبعه التوتر والصراع والحروب. تشير الممارسة إلى انخراط عدد من الأندية الرياضية الدولية أو بعض الرياضيين المشهورين في بلورة مبادرات إنسانية تدعم التحسيس بمآسي بعض الفئات الاجتماعية المظلومة أو المهمشة.. أو بمخاطر بيئية تهدد الإنسانية أو بمعاناة إنسانية مختلفة (تمييز عنصري، فقر، حروب، أمراض..).. بما يسهم في لفت النظر إلى هذه القضايا، وتشكيل رأي عام دولي واسع مواكب ومؤثر في هذا الخصوص.. لا تخفى أهمية القيم النبيلة التي ترسخها الرياضة، من حيث قدرتها على تلطيف الأجواء السياسية وتفريغ الطاقات وتنشئة الفرد على التعايش داخل المجتمع، وإصلاح وترميم المشاكل التي قد تخلّفها السياسة إن على الصعيد الداخلي أو الدولي. وتزداد الحاجة إلى إسهام الرياضة على اختلاف أنواعها في ترسيخ قيم التسامح والسلام والتواصل والتضامن وإشاعة روح الحوار بين أطراف المجتمع ذاته أو بين مختلف الشعوب والأمم في هذه المرحلة الحرجة من تطور العلاقات الدولية والمثقلة بتحدياتها وإشكالاتها الخطيرة في علاقة ذلك بتنامي التطرف والإرهاب وانتهاك حقوق الإنسان. drisslagrini@yahoo.fr