(إلى فؤاد بطرس وغسان تويني) < حكمة الرئيس فؤاد شهاب في إدارة سياسة لبنان الخارجية لم تُعطَ وافر حقّها، فعلى خلفية الصدع في الجسم اللبناني الذي خلّفته أزمة 1958، وإعلان الوحدة بين مصر وسورية في «جمهورية عربية متحدة» في الفترة ذاتها، بقيادة جمال عبدالناصر الذي ما انفك نجمه يصعد منذ حرب السويس قبل سنتين، أتى فؤاد شهاب بسياسة متوازنة بين تضامن في المبدأ مع العرب، ومحافظة ضمناً على مصالح لبنان مع الغرب، فباعتماده على دبلوماسيين محترفين، أمثال فيليب تقلا وفؤاد عمّون، في قصر بسترس، افتتح الرئيس شهاب عهده بالتركيز على استقلال لبنان وسيادته، فألغى «اتفاقية ريتشاردز- مالك» التي انضم لبنان بموجبها الى «مبدأ آيزنهاور» عام 1957، كما باشر بـ «تطبيع» علاقاته مع مصر، فسحب لبنان شكواه من مجلس الأمن ضد الجمهورية العربية المتحدة، وسمح بعودة سفير مصر اللواء عبدالحميد غالب الى بيروت، وتمّ تعيين الدبلوماسي المجرِّب جوزف أبوخاطر سفيراً للبنان في القاهرة. ثم حضّر الرئيس شهاب بعناية للقائه الشهير في آذار 1959 في منطقة المصنع الحدودية بعبدالناصر، رئيس مصر وسورية في آن، فباتّباع لبنان سياسة «إيجابية» حيال عبدالناصر، وعلى رغم حرب الجزائر والدعم المصري لـ «جبهة التحرير» ضد الفرنسيين وتحول مصر تدريجاً نحو الاتحاد السوفياتي، وسورية أيضاً، في جو قارص من الحرب الباردة، وفي وقت ازداد الدعم العسكري الأميركي لإسرائيل، تمكّن لبنان من الحفاظ على حياده، وعلى خط الهدنة مع إسرائيل، وزيادة المساعدات الأميركية له، وتمتين علاقاته بفرنسا التي وفّرت له، مع دعمها العسكري، مساعدات تقنية واقتصادية بعدد من الخبراء لا سابق له منذ الانتداب، ما سمح للعهد الشهابي ببناء المؤسسات وتطوير سياسته الاجتماعية. إذاً، بدلاً من سياسة «طموحة» في تحالفاتها كما في عهد سلفه، رسم عهد فؤاد شهاب سياسة خارجية «متواضعة» تتكتم عن حياد يؤمّن ظهر لبنان عربياً (وناصرياً)، فيما يحافظ على علاقاته الثقافية والسياسية بالغرب، فضلاً عن موقعه المالي. سبع نقاط هل بإمكاننا إذاً استنساخ سياسة فؤاد شهاب الخارجية في ظرفنا الحاضر، والصراع ما زال قائماً في سوريا وعليها؟ لا شك في أنه ثمة أوجه اختلاف عن حقبة الرئيس شهاب ليس لنا أن نتجاهلها: فأولاً، لم يعد الصراع القائم بين «حلف بغداد» ومصر عبدالناصر، إنما بات صراعاً بين ضفتي الخليج، العربية من طرف والفارسية من الطرف الآخر، بهويتين مذهبيتين متضادتين، وما لذلك من مضاعفات على الداخل اللبناني. وثانياً، خط الصدع في الداخل اللبناني لم يعد، مع تضاؤل الوزن المسيحي، بين مسيحيين ومسلمين (أو بين موارنة وسنّة)، إنما بين مسلمين ومسلمين (شيعة مقابل سنّة). أما ثالثاً، فإن بروز التنظيمات المسلحة في لبنان، بدءاً بالمنظمات الفلسطينية في الستينات بتغطية عربية، وسوريّة على وجه الخصوص (نستذكر قصف «الفدائيين» الفلسطينيين عبر الحدود السورية مواقع الجيش اللبناني عام 1969 تحت العين الساهرة لوزير الدفاع السوري حافظ الأسد)، وانتهاءً اليوم بسلاح «حزب الله» وتغطيته الإيرانية، إنما هو يشكّل تحدياً لمفهوم السيادة ما كان على الرئيس شهاب مجابهته. هذه العناصر الثلاثة كافية، دون سواها، لصنع مزيج قابل للتفجير (من بُعد)، ما يفرض ضرورة «فك ارتباط» بين الخارج الإقليمي والداخل اللبناني حفاظاً على توازن داخلي شديد الحساسية. من أجل ذلك، وحفاظاً على لبنان، نقترح الخطوات السبع التالية: 1- استصدار قرار لمجلس الأمن، استناداً الى القانون الدولي لجهة عدم تدخل الدول في الشؤون الداخلية لدول أخرى، يحظّر على أي دولة التدخل في شؤون لبنان الداخلية، سواء مباشرة أو عبر تزويدها جماعات خاصة بالمال أو السلاح، لما يشكله هذا التدخل من خرق للسيادة اللبنانية وتهديد لاستقرار لبنان وأمنه، كما يضع آلية لمراقبة حسن تنفيذ القرار وإصدار تقرير سنوي في هذا الشأن. 2- إعادة تأكيد لبنان على التزامه المطلق بالقانون الدولي، والقرارات الأممية وشرعة حقوق الإنسان، كما يعلن لبنان تضامنه المبدئي مع كل ما يشكل مصلحة مشتركة للدول العربية، من دون الدخول في أحلاف سياسية أو عسكرية، لما فيه من أثر معاكس على صيغته الداخلية. 3- سحب سلاح جميع الجماعات غير اللبنانية، لا سيما الفلسطينية منها، فالسيادة اللبنانية لا يمكن أن تكون مجتزأة جغرافياً أو زمنياً. 4- بناء «مقاومة لبنانية» إلزامية تشتمل على كل اللبنانيين (واللبنانيات) ضمن نظام خدمة العلم حتى التقاعد، وجيش احتياط دائم الجهوزية تحت إمرة وزارة الدفاع والجيش اللبناني. 5- ضم «المقاومة الإسلامية» إلى «المقاومة اللبنانية» ضمن جيش الاحتياط. 6- حل مشاكل لبنان العالقة، لاسيما ما يتعلق منها بأراض محتلة أو متنازع عليها، بما فيها مسائل ترسيم الحدود بالطرق الدبلوماسية أو التحكيمية، ضمن إطار أممي، والحفاظ في آن معاً على جهوزية دفاعية، من ضمنها جيش الاحتياط وبنى تحتية وقائية تضمن سلامة الأهالي، سنداً لمطالب لبنان المشروعة. 7- الطلب من مجلس الأمن والمؤسسات الأممية دعم لبنان بخبراء مختصين في المجال الأمني، والبنى التحتية، والإدارة العامة، وتنظيم المدن، والتشريع، بدءاً بسنّ قانون انتخاب، وإعادة تأهيل النظام العدلي، بمعايير دولية أصبحت غريبة عن ممارسة الإدارة اللبنانية. «منطق الدولة» أم «منطق الثورة» ؟ ما العائق إذاً أمام تنفيذ هذه النقاط السبع؟ رُبّ مُشكّك سيقول إن لا مجال اليوم لسحب السلاح الفلسطيني (مثلما قالوا في السابق لا حل للحرب اللبنانية ما لم تُحل قضية فلسطين!)، فكيف إذاً بضم سلاح «حزب الله» الى «مقاومة لبنانية شاملة»، ضمن جيش الاحتياط، فهذا من رابع المستحيلات! إجابةً نقول: إنما التشكيك في سحب السلاح الفلسطيني هو تشكيك في مبدأ السيادة اللبنانية، وقد ألغى مجلس النواب اللبناني برئاسة حسين الحسيني، في أيار 1987 «اتفاق القاهرة»، لسد آخر ثغرة شك في ما خصّ الفلسطينيين، بمبدأ السيادة اللبنانية. وأما بالنسبة الى «حزب الله»، فكيف له أن يرفض مبدأ «مقاومة لبنانية شاملة» وإلزامية تحت إمرة الجيش؟ فإنْ رَفض، نحسَبُ أنه ليس لسبب إلاّ لانتمائه إلى منظومة أمنية وعسكرية لا تخوّله أن يأتمر بسلطتين: إما سلطة الجيش على الأرض اللبنانية وإمّا «الحرس الثوري». في هذا السياق، ثمة نموذجان لمنطق السياسة «الحرسية» من المفيد ربما أن نتوقف عندهما، والأول هو في الحالة السورية. فآلاف الشبان الشيعة اللبنانيين أُرسلوا الى سورية لخوض حرب على غير أرضهم، وسقط منهم كثر، بمبررات مختلفة، سواء أكانت للدفاع عن لبنانيين في الأراضي السورية أم للدفاع عن المقدسات الدينية أم لمهاجمة المعتدين قبل أن يعتدوا، وفي نهاية المطاف لولا التدخل الروسي في اللحظة الحرجة لانهار النظام، فما كان نفع الميليشيات اللبنانية؟ وأما النموذج الآخر، فهو تصريح معبّر للجنرال يحيى رحيم صفوي، القائد الأسبق للحرس الثوري في إيران ومستشار المرشد الأعلى، أدلى به في أيار 2014 ليؤكد أن حدود بلاده على المتوسط هي جنوب لبنان. فترسانة «حزب الله» نفهمها إذاً قاعدةً أمامية للدفاع عن العمق الإيراني –من لبنان وعلى حسابه– في حال اعتدت إسرائيل على إيران (باعتبار أن بين الدولتين حدوداً مشتركة!). وأمّا إذا كسرت إسرائيل حاجز العقل وشنّت عدوانها، فهل لترسانة الحزب أن تردع إسرائيل، أم أن لبنان سوف يستجدي الأميركيين ليردعوا إسرائيل عن تدميره؟ فمن يردع من؟ هل لإيران مصلحة، إن وضعنا جدلاً مبدأ السيادة اللبنانية جانباً، أن يكون جنوب لبنان من حدودها، أم أنه يشكل عبئاً عليها أكثر منه «امتيازاً» ذا نفع؟ فهل يغلب، بعد التجربة، «منطق الدولة» عند الإيرانيين على «منطق الثورة»، مثلما حصل في المفاوضات النووية، حيث تغلّبت واقعية المصلحة الوطنية على عقيدة «النأي بالنفس» عن «الشيطان الأكبر»؟ من أجل لبنان محصّن والخطة 2020 في البدء كان لبنان طُموحاً مسيحياً ولو لم يكن مسيحياً من حيث تكوينه وجغرافيته «الرحبة» كما أرادها له الموارنة. قال فيه شكري القوتلي إنه اصطناعي، لكن هذا لم يمنع الرئيس السوري من اللجوء إليه بعد انقلاب البعثيين عام 1963، شأن غيره من الرؤساء. وعيّره نوري السعيد، كما أسلفنا، بأنه «شوكة في خاصرة العرب»، وكم تمنى هو لو تقاعد فيه بدلاً من أن ينتهي نهايةً أنذرت بثقافة «داعش» قبل «داعش». في واقع الأمر، لم يكن لبنان أكثر اصطناعاً من الجمهورية السورية، التي نتجت من دمج ولايات دمشق وحلب وبيروت العثمانية، كما العراق، الذي شُكّل من ولايات بغداد والموصل والبصرة. وفي زمن انهيار مُدوّ في سورية والعراق، ظلّ لبنان متماسكاً، على طوائفه وتناقضاته، مستوعباً صدمات المنطقة، فضلاً عن مئات آلاف النازحين، ومتحملاً في آن معاً تحرش من يعبث بصيغته الداخلية بالمال والسلاح. فبتنوعه الديني وحيويته الثقافية، تحديداً في الشرق الأوسط، لا بدّ من وجود لبنان بديلاً من كيانات التزمت الديني وحضارة اللون الواحد واضطهاد الآخر. من أجل ذلك، وللحفاظ عليه وعلى سلمه الأهلي، اقترحنا بنقاط سبع «انتداباً» أُممياً تحت سلطة مجلس الأمن، على غرار السنجق المستقل في عهد المتصرفية تحت رقابة الدول العظمى، إنّما بحكم لبناني. كما استوحينا أيضاً في السياسة الخارجية من عهد الرئيس فؤاد شهاب، بحيث يلتزم لبنان بمصلحة عربية مشتركة، إنما يحافظ في المقابل، على مبدأي الحياد والتوازن، لضمان استقراره الداخلي ومصالحه الخاصة. فلا سياسة الاصطفاف ولا تجنيد شبان لبنانيين مرتزقةً عند الآخرين يعود بنفع على لبنان، إنما هو خرق للميثاق، ولا الفراغ في رئاسة الجمهورية أو إغلاق باب المجلس أو التمديد للنواب كان بتكليف من اللبنانيين، بل هو عبث بالدستور وتهديد للكيان. ولا يعولنّ أحد على طبقة سياسية تقوم بأفعال مثل هذه أن تجدد هي الحياة الدستورية، بل إن أداءها يحتّم ضرورة خروجها، من دون استثناء، وعلى وجه السرعة، حتى يبقى لبنان. وللشتات اللبناني دور في تجديد السياسة في لبنان وتحديث هويته، مثلما وصفنا دور لبنانيي المهجر عقب الحرب العالمية الأولى، في تحديد هوية الكيان اللبناني والضغط في باريس ومصر وغيرها على إنجازه. أمّا داخلياً، فلا بد اليوم من صيغة أكثر مرونة تقوم على مداورة بين الطوائف في السلطات، كما اقترح بعضهم، حتى قيام مؤسسات تنحو نحو المدَنية (ولتكن مداورة بشرط أن تُحفظ في كل دورة إحدى الرئاسات الثلاث لمسيحي ليس بالضرورة مارونياً). فالهدف أمامنا هو خطة 2020، حينما يحتفل لبنان بمئويته، قوامها جسم سياسي جديد، يحصّن الكيان ويَحمِله بأمان الى مئويته الثانية. - «القطبة الخفيّة» في الصراع على سورية واندراج المترددين (1 من 2) * مدير «دار النهار للنشر» سابقاً