×
محافظة المنطقة الشرقية

“الصحة” : لا صحة لإيقاف التحويل للمستشفيات الخاصة أو خارج المملكة

صورة الخبر

نسمع كثيرا على ألسنة العلماء وطلبة العلم كلمة (العوامّ)، أحيانا على سبيل الشفقة، وأحيانا أخرى على سبيل الانتقاص والعيب، فما المقصود بكلمة (عاميّ) و(عوامّ)؟ لست ههنا في سبيل تشقيق الكلام وردّ الكلمة إلى جذرها اللغوي ثم ذكر الاشتقاقات المتفرعة منه؛ غير أني أشير إلى المقصود بهذه الكلمة على سبيل الإجمال لا أكثر. في كتب أصول الفقه يجري الحديث عن الاجتهاد والتقليد، فالمجتهد هو الذي ملك شروط الاجتهاد التي قررها العلماء -على اختلاف بينهم فيها-، شروط الاجتهاد التي من توافرت فيه كان مؤهلا للاستدلال واستنباط الأحكام الشرعية، من التمكن اللغوي، والإحاطة بأصول الفقه، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، وطرق الحديث، والجرح والتعديل، وغيرها؛ فمن استفرغ الوسع للنظر في الأدلة ثبوتا، ثم دلالةً على وفق تلك الشروط المذكورة فهو المجتهد، ومن لم يحط بتلك الشروط -ولو بالحد الأدنى- فليس مؤهلا للاجتهاد والنظر؛ فهو إذن عامّيّ حقه التقليد، والتقليد هو قبول قول الغير من دون معرفة بدليلِه، فقد يكون المرء حافظا لمسائل أهم متون الفقه، حافظا لأقوال الأئمة فيها، لكنه لا يعلم أوجه الاستدلال، بل هو مقلد حتى في الاستدلال نفسه، فليس هو بتقليده في الاستدلال مجتهدا؛ فالحديث صحيح لأن فلانا قال إنه صحيح، والآخر ضعيف لأن فلانا قال إنه ضعيف. وهذا تقليد بلا شك. أي أن لفظة (العامّيّ) تشمل حتى من يستظهر أمهات المتون الفقهية كما تشمل من لا يحسن قراءة الفاتحة، بل تشمل حتى أعلم أهل الأرض في الفيزياء والكيمياء، وأعظم جرّاحي الدنيا في تخصص المخ والأعصاب مثلا، ما دام -عند السادة الأصوليين- لا يملك الشروط التي تؤهله لاستنباط الأحكام الشرعية من النصوص. والاجتهاد عند طائفة من الأصوليين يتجزأ، فهناك من يجتهد في مسألة، ولكنه يقلد في غيرها، أي أنه مجتهد باعتبار، وعاميّ باعتبار. فلعل هذا يخفف الوطأة قليلا؛ فيكون في ذلك سلوى للعوامّ المساكين حين يشاركهم في هذا الوصف من يطلقه عليهم، إلا أنها عاميّة تتفاوت كما يتفاوت الاجتهاد، والحمد لله. ومن الطرائف أن لفظة العوامّ هذه يطلقها بعض الطوائف على بعض؛ فابن رشد مثلا يرى علماء الكلام عوامّ أو أشباه عوامّ على سبيل التنقص والازدراء، وعلماء الكلام يرون أهل الحديث عوامّ لأنهم لا يتقنون العقليّات، وأهل الحديث يرون علماء الكلام عوامّ لأنهم لا يتقنون الحديث، وتجد الإمام الشافعي يفرّق بين خبر العامّة (أي المتواتر الذي رواه الكافّة عن الكافّة)، وخبر الخاصّة أي الخبر الذي بحث أهل الحديث في رجاله وأسانيده جرحا وتعديلا. والاثنا عشرية درجوا على تسمية مخالفيهم من جميع طوائف المسلمين بالعامّة؛ بغض النظر عن عقائدهم؛ أشعرية كانوا أو سلفية أو معتزلة أو حتى زيدية. أما المثقفون فلا يعدمون أن يصفوا أنفسهم بالنخبة، وخطابهم بأنه نخبوي، ويصفون غيرهم بأنه شعبويّ يوجه خطابه إلى الدهماء، فحتى المثقفين يفرقون الناس بين خواص وعوامّ. وإذن -على ضوء ما سبق- كل الناس عوامّ بطريقة أو بأخرى! لا مشكلة في تفاوت الناس في العلم والإدراك والتخصصات، لكنّ المشكلة هي هذا (الاستعلاء) الذي يمارسه أصحاب تخصص على مَن سواهم؛ فما المطلوب ليتأهل المرء ليصبح خاصيًّا في نظر من يرميه بأنه عامّيّ؟ أفيراد من عالم الكلام -مثلا- أن يصبح فيلسوفا ليعترف به الفيلسوف أنه من الخواص لا من العوام؟ أفيراد من المحدّث أن يكون من علماء الكلام ليراه المتكلم من الخاصّة؟ والمرء من الشعب الذي ليس له باع لا في العلم ولا في الثقافة ولا في الفلسفة، وليس هو من الصراع بين هاتيك الأصناف في شيء؛ ما الذي يجب عليه أن يصنعه ليكون من الخواص؟ أعليه أن يحيط بكل تلك الفنون ليكون خاصيا؟ وإذا أخذ بفن من تلك الفنون فسيظل عند مخالفيه عاميًّا مهما تفوق واجتهد في الباب الذي يختاره. من يتتبع كتب التراث يجد ذكر العامّة مقرونا في الغالب بالانتقاص، فهم عوامّ، وهم دهماء، وهم غوغاء.. إلخ. وقد قيل: "دعك من العوامّ، فالعوامّ هوامّ"! وهكذا يشبّه الناس بأنهم من دوابّ الأرض التي لا تعقل ولا تعي. وليت شعري هل القرآن الكريم هو خطاب الله الموجّه إلى الهوامّ؟ بل إن أديبا كالجاحظ مثلاً لا (يتكرّم) كلمة عوامّ إلا على أهل العقول والفضل ممن لم يبلغوا درجة الخواصّ، أما من دون ذلك فهم ليسوا إلا حشوة وهمجا وطغاما، فيقول: "وإذا سمعتموني أذكر العوامّ فإني لست أعني الفلاحين والحشوة والصناع والباعة" ثم يقول: "وأما العوام من أهل ملتنا ودعوتنا، ولغتنا وأدبنا وأخلاقنا، فالطبقة التي عقولها وأخلاقها فوق تلك الأمم ولم يبلغوا منزلة الخاصة منا". الجدير بالذكر أن هؤلاء "العوامّ"؛ هم الذين يجري السباق لكسب ودّهم وإرضائهم، وهم الذين تكتب المقالات "لتنويرهم" وإرشادهم، وهم الذين يصنعون الشهرة للنخب، والمجدَ لصاحب المجد.