×
محافظة جازان

شاهد.. محاضر تحقيق وملفات مرضى ونفايات طبية ملقاة بـ"أبو عريش"!

صورة الخبر

خرجت أبحث عن نادية في الحديقة المترامية والصاعدة من الفندق و شاطئ البحر وصولاً لقمة الجبل، مساحات من الورد الأحمر والأبيض المخملي، أشجار ونخيل شامخ، أنادي وأصعد ولا أثر لنادية، ثم وفجأة لمحت يسار الممر تلك الشجرة شبه العارية، وبقمتها وقريباً من الممر الذي أصعده كانت حبات الكيوي، مكوزة وممتلئة، فكرت أنها هدية من تلك الطبيعة لي، ترددت في قطف تلك الثمار، ربما واحدة تكفي إذ أذكر عبارة مزارع قديم قال، "لا تقطفي للتخزين، اتركي الثمر لزارعه وللعابرين خلفك، تناولي ما يشبع حاجتك الآن، ودعي الغد للرزاق". تردَّدتُ كثيراً في قطف أي واحدة إذ لربما لم تكن ناضجة، ذهبت لآخر الممر ورجعت، لا يجب أن نهمل عطايا الطبيعة، وبلا تردد قطفت أكبر الحبات، في تلك اللحظة فاحت في الهواء فكرة "أن نادية قد مرت من هناك وقفطت ثمرة"، هي الشجرة همست لي بأن يداً تعرفني قد مرَّت بها. في منتصف الجبل كان حوض السباحة الضخم، مهملاً لموسم الشتاء وتطفو على سطحه أوراق شجر صفراء. لليسار كانت نادية منحنية صوب البحر وتلتقط صوراً لمراكب الصيادين بالأسفل. من الأعلى بدت تلك المراكب مثل أكف مفتوحة تستمطر رحمة السماء. همستُ، "انظري ما وجدتُ". وفتحت كفيّ لأريها حبة الكيوي مثل كنز، وجاوبتني ضاحكة بنظرة ظَفَر، "انظري أنتِ". وأخرجتْ حبتي كيوي ضخمتين، تفوقان الحبة التي قطفتها. "واو، سيكون هذا عشاءنا". "لقد وعدتُك، ألا نغادر هذه المقاطعة ما لم نقهر أشجار البرتقال البعيدة المنال، وأذيقك ثمرها من الشجر مباشرة. خذي هذه حبات اليوسفي، صغيرة لكن رائحتها تصرع، ومذاقها بلاشك عجيب". هناك وقفنا مشرفتين على البحر نقشر اليوسفي ونرتشف رحيقه، لذة عجيبة، لكأنك تأكل من يد الشجرة، من يد الأرض مباشرة وبلا وسيط. في السفح كان السائق بانتظارنا ما ان أطللنا من الفندق، "مرحباً سيدتي، معك دانييل، أنا المُكَلَّف بأخذكما لجنوة". وانطلقنا في زرقة البحر، معظم الطريق يمر بمحاذاة البحر. جنوة مدينة قاحلة رغم عراقتها، تستقبلك مطوقة بعمائرها الحديثة بلا سحر، قلب المدينة التاريخي يتخفي في تلك الطلعات التي يُطْلِق عليها السُكَّان لَقَبَ: كاربوجي. بمعنى الطرق الضيقة التي تترك لبيوت الحي أن تتعانق. سحر خاص لقلب المدينة، لا يلبث أن ينقشع حين تهبط لمينائها، هناك تقف بشموخ سفينة كريستوفر كولمبوس، وجنوة مهبط رأس هذا الرحالة العظيم الذي اكتشف نصف العالم المخفي، أرض الفرص أميركا. ولا تعرف ما إذا كانت تلك السفينة الأصلية أم تَمَّت فبركتها لإبهار السياح، لكن الأكواريوم خلفها قام ليدعمها في استقطاب السياح، وجاء تعليق السائق دانييل: "بوسع الزائر أن يتناول وجبة من ثمار البحر بين الدلافين وأسماك القرش في مطعم الأكورايوم، إنها تجربة لطيفة". وتتساءل ما اللطيف في شهود الدلافين للبشر يلتهمون رفاقهم من الحيوانات البحرية؟ نتقدم في الميناء العريض، ريح مثلجة تدفعنا، ترى ذلك العجوز الذي يهرول منحنياً بوجه الريح، يمارس رياضة صباحية، وتتعجب من أولئك الذين لا يزالون ينفخون آخر جمر أجسادهم المعطوبة. تُحَيِّي فيهم هذه الحيوية والتشبث بالحياة، تتذكر الذين رحلوا، جارنا الذي ظَلَّ عشرين عاماً ينتظر الموت، وأغلق على نفسه معتكفاً، بينما هنا أناس لا ينتظرون الموت، أنه ينتظرهم على أي عطفة في الطريق، أو ربما على ذلك الميناء حيث تلك السفينة الراسية من عهد نابليون، وتذكرك بالحظوة التي كانت لجنوة مع فرنسا في تلك العصور الغابرة، "آلي لاليا.." تغريني الريح بالتغني باسم تلك العبارة، تضحك نادية موبخة، "ألا ترين الخط، آليتاليا.." نتجول متغنيتين مع كل مشهد مدهش، "آلي لاليا.." ونضحك، وترمقنا سفن شراعية بلا حصر تقف بصمت على حواف الميناء. ويقاطعنا ذلك الإفريقي النحيل، يتقدم بكومة خيوط ملونة، يعرض خيطاً على نادية، "تفضلي، من أفريقيا". وحين اعتذرت عن قبول تلك الإسورة البدائية الصاخبة الألوان، ألح، "لجلب الحظ الحسن، لا أريد نقوداً، رجاءً لا ترفضي هدية أفريقيا". وانتهى بأن حَمَّلَنا خيوطاً كشمس البلاد التي خلاها وراءه". لأفريقيا قلب كبير. يضيف ضارباً على صدره. قلب تدوسه بلاد الغرب التي تستقبل المهاجرين، وتتركهم قساوة لقمتها يهترئون على أزقتها. على حافة الخط الصاعد من الميناء كانت تلك الجماعة، منتشرة على الرصيف تبيع ثياباً على بسطات على الأرض، تهبط نادية بحماسة للتصوير، ترمق الأعين الجائعة السيارة السوداء، وتتأمل في هيئتنا، الطاقة الروحية مخيفة هناك، أتردد في الترجل وأجلس في مقعدي بينما تتجول نادية بين البسطات متلقية تلك الصدمة، ثياب مستعملة، ثياب ممزقة، جوارب، أغطية رأس، رجال من شمال أفريقيا يتكلمون بلهجات المغرب العربي جنباً إلى جنب مع أولئك الأفارقة يبيعون ثيابهم الخاصة بأمل أن يظفروا بلقمة تسد الرمق. أعين غاضبة ترمق القادمين، غضب مخيف يقدح في تلك الأعين والقلوب، تعرف من أين يمكن أن ينبثق الإرهاب الذي يتهدد العالم، إنها تلك القلوب التي تنطحن في الغرب لكي تحيا، لا تجد حياة لائقة في بلادها فترحل في الأرض وتحيا على الأرصفة وفي البرد والريح بأمل أن تسعفها ضربة حظ فتطفو على وجه الأرض. تلاحق نادية تلك الكلمة، "أنها تُصَوِّر.." وتلاحق السائحات عبارةٌ حادة، "هذه الحرمة.." لغةٌ مُحَقِّرة وعنف عميق مُوَجَّه للمرأة. يتقدم رجل الأمن من نادية، "ما الذي تفعلينه هنا؟" جاء السؤال بلهجة رائقة محترمة. "أصور، هنا مشاهد إنسانية جميلة". "لكن ربما تزعجهم الكاميرا". "حسناً، لا داعي". واتجهت للمغادرة، ولاحَقَها ذلك المراهق، والذي يحمل غضباً تنوء بثقله سنواته العشرين، غضب تجاه المرأة وتجاه الحياة، "أنتِ، لاتصوري". قالها هامزاً بعنف، تشعر أن عنفاً قد يندلع في أي لحظة، ونغادر الموقع باتجاه المطار. تتنفس الصعداء أن تغادر تلك المدينة، و هي كغيرها من المدن ذات السواحل المتاخمة للقارة السوداء كمرسيليا مثلاً، مدن كقنابل موقوتة بما تستقبله من مهاجرين مطحونين. تشعر بحزن على ذلك الإفريقي النحيل والذي يخبط على قلبه مؤكداً وجوده، تشعر أنه يستحق الحسنة أكثر من النادل في المطعم أو السائق الذي يجلس خلف المقود برفاه ويتوقع الإكرامية كحق مكتسب. "معظمهم مشردين بلاسقف يؤويهم" جاء تعليق السائق. وتتساءل ما الذي يمكن عمله لانتشال أولئك الرجال من تلك المحرقة. إذ لاريمكن لحسنة ان تنقذهم. في المطار وكآخر تحية لمقاطعة أليجوريا أخرجتُ حبة اليوسفي بحجم عقلة إصبع من جيبي، وكان معطف المطر يفوح برائحة البرتقال الصارخة المنعشة، قشرناها واقتسمناها، حموضة وحلاوة لذيذة لارتشبه أي يوسفي سبق وتناولناه، إنه من الشجر لشفتيك.