×
محافظة حائل

شاهد.. زراعة حائل تنجح في جراحة لمعالجة كسر فك جمل

صورة الخبر

كان هوميروس بصيرا بأحوال مجتمع أعمى. لا يمكن النظر إلى عماه على أنه نقص إنما اكتمال؛ فليس الخطأ خطأ كفيف بين شعب مبصر بل في أمة لا ترى ماضيها إلا عبر مخيلة ضرير، ومن الواضح أنه فاق المبصرين في رسم التفاصيل الدقيقة للشخصيات والخلفية الزمانية والمكانية للأحداث التي عالجها في "الإلياذة" و"الأوديسة". نوع عمى هوميروس من العمى الحسي وليس البلاغي، وفي مجتمع مدّع للرؤية يبدو أن هذا الضرب من العمى فضيلة. كان هوميروس ضريرا ومع ذلك منح البصر للآلهة والأبطال والحسان، فيكون اصطنع في ملحمتيه عالما مبصرا تتنازع فيه الآلهة، ويتقاتل الفرسان، وتثلم العذارى قلوب العاشقين، ويتساقط الأبطال كأنهم سنابل جافة في ربوع اليونان القديمة إلى درجة أصبح ذلك العالم أنموذجا أعلى لسائر المجتمعات المبصرة في التاريخ، فعنه انحدرت العوالم اللاحقة، ونهلت من أساطيره وبطولاته وقيمه كثيرا مما أصبح من معالم الحياة الأرضية فيما بعد في بلاد الإغريق وسواها. احتفظ هوميروس بصور مرئية عن العالم خلال إبصاره في الطفولة، فغذّاه ذلك بالمبالغة الشعرية الجامحة حالما أصبح كفيفا، ومعلوم بأن شروط الإنشاد الشعري، وتقاليد الحفاظ على الموروث القديم، تدفع بالرواة العميان إلى الإفراط في التخيّل، وعليه فقد نهل من ذخيرة جاهزة صاغها الآخرون قبله، وانتقى منها ما يناسب وظيفة القول الملحمي الهادف إلى تمثيل أحوال المجتمع اليوناني القديم، فلا يراد من هوميروس الدقة، إنما تأويل الأحداث تأويلا خياليا يستجب لوظيفة الشاعر الجوّال الذي يُنظر إليه باعتباره حاملا لتاريخ الأمة، وعارفا بأحوالها، فدوره دور منسّق للأقوال، ومرتّب لأجزائها المتناثرة، ثم إدراجها في سياق حكاية كبرى تتغذّى من حكايات صغرى تؤلِّف نسيجها السردي، وعرضها بنبرة شعرية تلامس التخيّلات المسبقة عن الماضي أو تعبر عن أطراف منها. لن يكون الشاعر الكفيف مُجيدا إن لم يتمرّس بإنشاد الأشعار الموقّعة بصيغ شفوية جاهزة، طوّرها الأوّلون، وعرفها جمهور الشعر، وقَبِل بها، فبدونها يتعذّر عليه المضي في وصف الموضوعات الجليلة التي هي محطّ اهتمام ذلك الجمهور؛ فالشاعر المُجيد مَنْ يستعيد، بالصيغ الشفوية، ما يرغب فيه جمهور يترقّبه، فيجزله العطاء بعد ذلك على صنيعه، ويمنحه المكانة السامية في ذاكرته، وقد ترسّخت تلك الصيغ بشعراء توالوا في تردادها وصقلها من قبلُ إلى أن أصبحت جزءا من تقاليد التلقّي الشعري، وكلما امتثل الشاعر لها كان بارعا؛ فالذوق العام بطيء في قبول ما يجهله، ولذلك يمتثل الشعراء لتقاليد الإنشاد في التعبير عما يريدون قوله، بما يوافق توقّعات المتلقّين، ومع أنه ليس لدينا دليل عن وجود شعراء جوالين في اليونان القديمة قبل هوميروس، الذي يفترض أن يكون قد عاش في مطلع الألف الأول قبل الميلاد، فالراجح أنه امتثل لمن تقدّم عليه، وبما أن أقواله كانت تسبح في بحر الشفوية اليونانية، فلا مهرب من القول بأن من تلاه من شعراء قومه أثروا ما كان ينشده، وانتهوا إلى الصوغ النهائي الذي وردت فيه الملحمتان المنسوبتان إليه. عاش هوميروس في قلب الحقبة الشفوية، ويُعدّ ممثلها الأول في تاريخ الأدب، ففضلا عن البناء الشفوي للإلياذة والأوديسة في ترتيب الوحدات السردية المحكومة بمنطق التتابع، فإن الأساليب الخطابية القائمة على الإنشاد، والروح الشعري المُشبع بالصيغ الجاهزة في وصف الأبطال، والحروب، والمصائر، يربط الملحمتين بأعراف الآداب الشفوية، والراجح أن نحوا من خمسة قرون مرّت قبل أن تظهر الملامح الأولى للمرحلة الكتابية في الثقافة الإغريقية، ومثلتها تراجيديات سوفوكليس، وأسخيلوس، ويوربيديس، ومحاورات أفلاطون، وبذلك ظهرت الكتابيّة التي أصبحت تشير، فيما بعد، إلى "مجموعة من المعارف والممارسات الفردية والجماعية التي تنتشر في حقبة معينة في مجتمع كانت تسيطر عليه إلى ذلك الحين الشفوية". تعدّ الإلياذة والأوديسة النموذج الأسمى للشعر البطولي عند الإغريق، وغيرهم من الشعوب، وهذا الضرب من الشعر "هو دائما شعر ارتجالي، يُنظّم شفاهة، وغالبا بواسطة شعراء لا يعرفون الكتابة، ويُنشد أمام جمهور من المستمعين. ومن ناحية الصياغة فإنه يمكن تمييزه على الفور بالتكرار المستمر للعبارات والأبيات، بل ولمجموعات كاملة من السطور". ذلك ما انتهى إليه "فينلي" في كتابه "عالم أوديسيوس". لم يبرأ "هوميروس" من الشكّ حول أصوله، وحول عماه، لا من كونه شخصا وجد في تاريخ اليونان القديم، إنما من حيث كونه مؤلِّفا ملحميا امتلك ذاكرة وبصرا، فحينما نوغل في العالم الافتراضي للسرد في ملحمتيه فسوف نواجه بعناصره الأساسية: الشخصيات، والأحداث، والأزمنة، والأمكنة، ولكي تنظم تلك العناصر في البنية السردية لنصّ ملحمي يتولّى تمثيل أحداث مضت، وشخصيات فُنيت، وأزمنة توالت، وأمكنة وقع فيها كل ذلك، فينبغي أن تكون هنالك ذاكرة وعين لذلك المؤلّف. ذاكرة تستدعي الأحداث الماضية، وعين تصف الأماكن التي وقعت فيها، فضلا عن خبرات في ترتيب المادة السردية، وتعاقب وقائعها، ما ينبغي أن يخضع للصوغ الذي تنتهي إليه ذاكرة شفوية عبر التكرار، فلا غرابة أن يصف "ريكور" ثاني ملحمتيه "الأوديسة" بأنها "تحيك معا الأحداث والأماكن" وهي "تحتفل بالوقائع والمحطّات بقدر ما تحتفل بالعودة المؤجلة دوما، هذه العودة إلى جزيرة إيثاكا التي من المفترض أن تضع الأشياء في مكانها". سيكون من المتعذر -في ضوء التحليل النصي- لذلك الوصف المستفيض لرحلة "أوديسيوس" الطويلة في خضم بحار هائجة، وقوارب متأرجحة على الأمواج، وضياع طويل بين الأمواج استغرق نحوًا من عشر سنوات، قبل أن يرفأ على شواطئ مدينته، ويلتئم شمل أسرته؛ فكي يستقيم أمر الأحداث، ويصبح لوقوعها دلالة سردية أو حتى تاريخية، فيلزم الوصف الذي عرضته عين مبصرة بأماكن وقوعها، ومنها المنازعات المريرة التي وقعت بين كبار الأبطال في السواحل والجبال والمدن. كلّما ابتعد الزمن بهوميروس عن اللحظة التأسيسة التي اقترحها في ملحمتيه صار اللاحقون أكثر حاجة لاعتبار قوله من الحقائق التاريخية؛ فالعامة لا تُغرى فقط بالحقائق التاريخية إنما بتلك الحقائق مغمورة بسيول من التخيلات المثيرة، أما الخاصة فقد لا ترى في الحقائق الشعرية قيمة بذاتها إنما بكيفية تمثيلها بتلك الصيغ المؤثّرة التي نجحت في تصوير الماضي طبقا لما يترقّبه جمهور من شاعر أعمى ينثر حكاياته بين جمع من المبصرين، فينقلب الأمر لاحقا ليكون هو المبصر وهم العميان، فالشاعر يعرف أنه يعرض تمثيلا مجازيا لعالم توارى عن الأنظار منذ قرون، ولم يتبقّ منه سوى أصداء بلغته نتفٌ منها، فيقوم بترميمها بالشعر الموقّع بما يوافق الصيغ الجاهزة لديه، وبذلك يضع تحت الأبصار، وأمام الأسماع، ما ظُنّ أنه العالم الذي يترقّبه المتلقّون، وفي كل ذلك لن يكون مشغولا بالمطابقة بين عالم حقيقي مفترض انقضى وعالم متخيّل يرتسم بالقول الشعري؛ فمكانة الشاعر الملحمي ترسّخها قدرته في التعبير عن المخيال الجماعي الذي يستجيب لمحتوى مرويات تمثّل حقائق انقضى زمنها، وتفكّكت، وربضت في عمق الذاكرة بلا نظام، وباستعادتها يتيح للجمهور أن يتخيلها مرة أخرى باعتبارها حقائق لا سبيل للشكّ في صدقها.