في مطلع شهر فبراير الحالي خرجت الأمم المتحدة عن صمتها، وقضت بأن جوليان اسانج مؤسس موقع ويكيليكس الذي ظل لاجئا في سفارة الاكوادور في لندن خوفا من ترحيله الى دولة السويد محجوز تعسفيا وبشكل غير قانوني ويجب اطلاق سراحه. اسانج اميريكي في الرابعة والأربعين من عمره، كان في يوم من الأيام هكر كمبيوتر يعمل لصالح المخابرات الامريكية ويحمل جواز سفر استراليا. يقول هو واصدقاؤه: ان ما يجري هو محاولة لتسليمه للولايات المتحدة لمواجهته بتهم تتعلق بتلقي ويكيليس ونشر عشرات الآلاف من البرقيات السرية العسكرية والدبلوماسية الاميريكية في عام 2010. وبالرغم من ان اسانج سيظل في السفارة، إلا ان مناصريه عبروا عن ترحيبهم بالقرار ورأوا فيه حالة نادرة من العدالة لإنصاف رجل يعتقدون انه تعرض للمضايقة والاضطهاد لا لشيء سوى انه كشف اسرار حكومة. كشف اسانج من خلال التصريحات التي يدلي بها عن مدى تشاؤمه تجاه الديمقراطية الغربية، وعن استعداده للعمل مع حكومات اوتوقراطية كحكومة فلاديمير بوتين في روسيا. وتسبب انتماؤه السياسي في تقويض حيادية موقع ويكيليس والقضية النبيلة التي انتدب نفسه للدفاع عنها، ولهذا فما نحتاجه الآن هو ويكيليكس ولم تعد هناك حاجة لمؤسسها. لا يشك احد في ان موقع ويكيليكس الذي انشأه جوليان في عام 2006 شكل عمودا فقريا للحريات المدنية على مستوى العالم، ولكن المشكلة أصبحت في ان المشروع ارتبط بالرجل ويصعب الفصل بينهما. ان الفكرة وراء هذا الموقع بسيطة ولم يسبق لها مثيل. صندوق بريد على الانترنت يوفر اقصى درجة من الأمان لنافخي صافرات الإنذار في العصر الرقمي. فكل من يقرر ان يكشف سلوكا منحرفا في مؤسسة او حكومة بدءا من التحايل على دفع الضرائب وحتى جرائم الحرب يستطيع ان يطمئن ان ويكيليكس توفر حماية كافية تضمن ان رقم بريده الالكتروني وما يرفعه من معلومات لا يمكن تتبع اثر مصدرها او الوصول الى مرسلها. ففكرة كشف الغطاء عن الأكاذيب والممارسات الخفية غير المشروعة مارسها الموقع بمهارة وأدت مهمتها بشكل مذهل. نافخو صافرة الإنذار المبكر رفعوا في الموقع مواد أثبتت وقوع جريمة فساد رئيس كينيا السابق واستراتيجيات التهرب الضريبي التي تمارسها المصارف الأوروبية الكبيرة وقتل هيلوكبتر اميريكية للمدنيين العزل في العراق بشكل غير مبرر. وقد ساعدت نوافذ الاخبار المفتوحة بما في ذلك صحف الجارديان، وديرشبيجل، ونيويورك تايمز، اسانج في توسيع دائرة الضوء وتسليطه على الممارسات الفاسدة. لكن المراقبين لسلوك اسانج وشركاءهم من وسائل الاعلام لديهم شعور بأن الرجل لديه ما يخفيه اكثر من الشفافية. وأن هناك أيديولوجيا كامنة وراء فكرته، وهي أيديولوجيا افصحت مع الزمن عن نفسها من خلال تصريحاته المنتظمة التي يدلي بها للجمهور ومن خلال تقييد نفسه ضيفا ثابتا لشبكة تلفزة روسية مملوكة للدولة. احد جوانب تفكير اسانج كان واضحا منذ الأيام الأولى وهو انه ليس هناك ما يمكن تسميته سرا مشروعا، وان الجمهور من حقه تقاسم والاطلاع على أي معرفة لدى الحكومات، وان الشفافية الكاملة وحدها يمكنها ان تمنع عمليات التآمر على الشعب. وفي هذا الخصوص فإن إعادة صياغة المعلومات من قبل الحكومة أو ما يسمى تنقيح المواد الحساسة يساوي تماما عند اسانج عملية التلاعب فيها. وطريقة التفكير هذه ليست فرغة فقط وانما تعتبر نوعا من الراديكالية الخطرة والمضرة. وجاء الرد من الروائي جوناثان فرانزين في روايته الأخيرة الطهارة “Purity اذ يقول: ان مصادر المعلومات كويكيليكس لديها هذا النوع من الحماقة الوقحة، تماما مثل الطفل الذي يعتقد ان الكبار ينافقون عندما يحرصون على تنقيح ما يخرج من افواههم.. لا يمكن اعتبار التنقيح تزييفا.. انه منتهى التمدن والتحضر. فإذا كنت تعتقد انه ليس من حق الحكومة شرعا الاحتفاظ بالأسرار فهذا يعني قفزة سريعة في الظلام لافتراضك ان الحكومة التي تحتفظ بالأسرار حكومة غير شرعية، وان النظام الذي يحافظ على عدم الشرعية هذه وهي الديمقراطية ليس نظاما جيدا كما يعتقد فيه معظم الناس، وبعبارة أخرى ان الديمقراطية كأي نظام آخر بغيضة وغير مرغوب فيها. استخدم جوليان اسانج ويكيليكس للضغط على المفتاح الخطأ وانتهى الى ان كل ما ينشر له جذر متعفن. لقد كان اسانج يسرب معلوماته في اغلب الأحيان من اجل التسريب فقط، فتسبب بفعله هذا في انتاج عهر استخباراتي، فمثلا ما هي الفضيحة في محتوى البريد الالكتروني الشخصي لجون برينان مدير وكالة المخابرات الامريكية الأسبق التي تبرر لويكيليكس نشرها كاملة؟ الفضيحة التي تستحق النشر كما يبدو بالنسبة لاسانج هي ان هؤلاء الناس أناس شريرون ينبغي كشفهم للعالم، وان كل من يحتفظ بأسرار هو انسان سيء بغض النظر عن الأسباب التي جعلتهم يحتفظون بها أو مدى أهميتها والقيمة التي تمثلها. بل من السيئ وبالغ السوء في نظر السيد اسانج اذا كان أولئك الناس يمثلون الديمقراطية الغربية، ففي تفكيره الساذج ان الغرب مخادع وكذاب لأنه يدافع عن الحريات المدنية في الوقت الذي تشكل الاسرار والاحتفاظ بالمعلومات وعدم الإفصاح عنها أيا كان نوعها تناقضا واضحا مع الحرية. ولهذا لم يكن مستغربا ان يتم الاحتفاء به وتقديمه من خلال التلفزيون الروسي، فوجهة نظهره تضعه بشكل متطابق وفي نفس خط اجندة بوتين الأيديولوجية. سواء كان هناك اتفاق مسبق وتعويض او مكافأة متفق عليها بين اسانج وبوتين ام لا، فمن المثير للاستغراب حصول احد اكثر دول العالم كتما للأسرار على شهادة براءة عبر ويكيليكس. لماذا لم تكشف ويكيليكس طوال فترة وجودها على الانترنت أي فضيحة للمخابرات الروسية؟ هل لأنه ليس لديها أي فضائح؟ ام لان السيد اسانج لا يريد ان يحرج السيد بوتين؟ في بعض الأحيان يسمح السيد اسانج لأيديولوجيته المعادية للغرب ان تسيطر عليه بشكل كامل. ففي ليلة اعتداء باريس العام الماضي والذي خلف وراءه 130 قتيلا نقل ويكيليكس على تويتر ما يلي: قتل الليلة على الاقل 39 شخصا في العمليات الإرهابية بباريس، 250 الفا قتلوا في سوريا والعراق وكلاهما نتيجة مباشرة لما تقدمه الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا من دعم للمتطرفين السنة. بغض النظر عن ما تحمله الرسالة من إساءة واهانة فإن هذا النوع من اللغة يمكن ان يدمر الهدف الأساسي لويكيليكس. من الصعب ان يشجع مثل هذا الكلام الوطنيين الأمريكيين على اطلاق صافرة الإنذار لكشف اسرار حكومتهم. لكن ربما لم يعد ذلك هدف اسانج. فالألماني دانيل دومشيخت والذي كان أحد شركائه المقربين ترك عمله عام 2010 في ويكيليكس واحد أسباب مغادرته الذي ابلغه لصحيفة ديرشبيجل هو ان اسانج يسعى لمواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة الامريكية. أحيانا يحتاج العالم لراديكاليين لاجتثاث الشر من جذوره حتى لو كانوا من اولئك المناضلين المغرورين، لكنهم يظلون بحاجة الى نوع من التوازن. والسيد اسانج يفتقر لذلك التوازن. ويكيليكس فكرة نبيلة وعظيمة وينبغي فصله وابعاده عن مبتكره.. فهو ابعد ما يكون عن ذلك.