تلك الجدران تحمل حكايات غامضة، تعود بنا ربما مئات السنين إلى الوراء، فهي عبارة عن معرض للوحات فنية رائعة، تضم صور المخطوطات التي تجعلك تشعر بأنك تحتاج إلى ساعات من التأمل، وأنت تحاول فك رموزها، والإمساك بمشاعر العودة بالتاريخ إلى الوراء معها، إنها تخبرك عن كاتبها، كيف كان يجلس، وماذا كان يرتدي، وما شكل الحياة في ذاك الحين؟!. لوهلة تبدو تلك المخطوطات أشبه ببوابات عبر الزمن، تجتازنا بصمت ولا نزال في أماكننا، تتقدم ببطء وأنت تعبرها مقاوماً رغبتك في الاستسلام لها، فهي العنوان الكبير الساحر الذي اختاره مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث، ليعرّف به عن نفسه، فتقودنا مخطوطاته في جولتها الملأى بالمفاجآت، بالاستكشاف، لتنقلنا من مرحلة إلى أخرى، ومن سر إلى حكاية في هذا المركز العالمي في الثقافة والتراث. من خلال تلك النماذج المنوعة لمخطوطات في الأدب، وفي العلوم، والطب، والفلك، والرياضيات، والهندسة، يقودك الممر الواسع إلى معرض صغير يبدو أشبه بمتحف، يوثق مسيرة إنجازات المركز على مدى خمس وعشرين سنة منذ انطلاقته، فيه صور كثيرة لأبرز المثقفين الذين زاروا المركز، مثل الشاعر الراحل نزار قباني، وجهاد الخازن، حمد بوشهاب، وشخصيات كان لها بصمة في التعليم، مثل الراحل الشيخ عبد الرحمن سميط، بالإضافة إلى الكثير من الوزراء والمسؤولين الذين زاروا المركز على مدى سنوات طوال. ويحتفظ المعرض بالتصريحات التي تعود إلى جمعة الماجد فيما يخص عمل المركز ومسيرته، وصور لرحلاته التي قام بها بنفسه بحثاً عن المكتبات والمخطوطات، والصور التي توثق الاتفاقيات التي قامت بينه وبين المراكز العالمية والمؤسسات. يعاني الباحثون في الحصول على المخطوطات لأسباب كثيرة، منها: غلاء الأسعار، و ندرة هذه المخطوطات، أو تأخر تقديم الخدمات للباحثين وتضييع وقتهم بسبب الروتين، حسب أنور الظاهري موظف في العلاقات العامة، ولهذا جاءت فكرة إنشاء مركز جمعة الماجد للدراسات والبحوث عام 1991، ليقدم خدماته للباحثين، بالإضافة إلى المهمة الأساسية التي يقوم بها، وهي حفظ التراث العالمي والإسلامي، الذي بدأ يندثر ويتلاشى بفعل الكثير من العوامل، وهنا كان لابد من العمل على ملاحقة هذه المخطوطات في مختلف أنحاء العالم، من أجل ترميمها، ويقول: يرسل المركز أجهزة الصيانة والترميم مجاناً إلى الكثير من المناطق حول العالم، وقد أنشأ 46 معمل ترميم في 30 بلداً حول العالم، لتستفيد منها هي والمناطق المجاورة، مقابل أن يحصل المركز على نسخة من المخطوطات التي يتم ترميمها لديهم، واليوم يمتلك المركز أكثر من 700 ألف مخطوط مصوّر، ولديه أكثر من مئة اتفاقية تعاون في مجالات مختلفة، معظمها تدور حول ترميم المخطوطات، وأخرى تتضمن تبادل الإصدارات والنسخ المصورة، كما أن المركز منتشر في ثلاثين دولة حول العالم، وحتى لا يتكلف الباحثون حول العالم عناء السفر من أجل الاستفادة من المصادر التي يحتاجونها لدراساتهم، يوفر المركز اليوم خدماته للباحثين عبر الإنترنت، حيث يتواصل الباحث مع المركز، مستفسراً عن المخطوط أو الكتاب الذي يحتاجه، ويقوم المركز بإرسال نسخة إلكترونية له، ليستفيد منها وهو جالس في منزله. المكتبات الخاصة أكثر من 90 مكتبة خاصة توجد في المركز، بمختلف اللغات، كلها مكتبات لشخصيات ثقافية وعلمية مهمة من مختلف دول العالم، ومنها لمنظمات ومؤسسات ومكتبات عالمية قامت بإهداء المركز هذا الإرث الكبير متبرعة به لهذا المشروع الإنساني الضخم، ومنهم من أوقف مكتبته للمركز ليستفيد منه الباحثون، وعلى جانب كل مكتبة نقرأ اسم صاحبها وتاريخ زيارته للمركز وتبرعه بمكتبته، أو جزء منها لهذا المشروع، مثل جامعة هارفارد، نزار قباني، جمعية المرأة الظبيانية، حاكم قطر الأسبق، ممدوح عدوان، ود. خليل الفلاسي، ود. نجيب الكيلاني، وغيرهم من الأسماء الكثيرة، وتحوي المكتبات الخاصة أيضاً مكتبة متخصصة بالشعر، كما تحوي المطبوعات الحجرية أيضاً. يضم المركز أيضاً قاعة للمحاضرات التي تحتضن الدورات التخصصية التي يقيمها المركز بين الحين والآخر، مثل ورش عمل لترميم المكتبات، والمحاضرات التوعوية في مجال حفظ التراث في المكتبات، ومحاضرات الثقافة العامة، وافتتاح المؤتمرات، فالقاعة مجهزة لاستيعاب 120 شخصاً. ومن جديد يقودنا الممر الطويل إلى المعمل الرقمي، لنقابل هناك أحمد عثمان أحمد، خبير الأرشفة الإلكترونية في مركز جمعة الماجد، الذي وقف مرتدياً قفازين، يخبرنا عن أهمية الوقاية في مجال عمله، حيث مر بالعديد من التجارب غير السارة من خلال مسيرته الطويلة في التعامل مع مختلف أنواع المطبوعات الورقية، موضحاً أن بعض الكتب والمخطوطات قد تحوي البكتيريا والفطريات، التي قد تؤدي إلى عدد من أنواع الحساسية التي أصابته سابقاً، وعن عمله يقول: نعمل في هذا القسم على تحويل المعلومات التقليدية إلى مواد رقمية وإتاحتها لأكبر عدد ممكن من الباحثين، وتوفير الوقت والجهد عليهم لتصل إليهم في جميع أنحاء العالم، ولعل الحفاظ على الأصل يعدّ من أهم فوائد هذا العمل، فالمركز يحوي الكثير من الكتب النادرة، التي تعدّ مهمة جداً، والتي قد يعرضها التداول إلى التلف، بالإضافة إلى أن النسخة الرقمية تتيح المشاركة إلى أكثر من شخص، وهذا الخيار غير متوفر في الكتب التقليدية، ويذكر أن المركز بدأ بتحويل المخطوطات والكتب والدراسات الجامعية إلى مواد رقمية منذ عام 2000، وعن عملية الأرشفة الإلكترونية يشرح أنها تمر بعدة مراحل، بدءاً بالفهرسة ثم التصنيف، وبعدها عملية الرقمنة التي تقوم على تحويل المادة التقليدية إلى مادة رقمية، وبعدها تتم عملية التخزين، وبعدها تأتي عملية استرجاع المادة، ويذكر أن من أهم التحديات التي تواجههم من أجل المستقبل، والتي يعمل المركز على حلها، تتمثل في تحويل الصورة إلى نص، وذلك لتسهيل عملية البحث على الباحث ليتمكن منه، من خلال الكلمات المفتاحية عن الصفحات والمعلومات ليتمكن من البحث في مضمون النص، ويذكر أن هذه التقنية باتت متاحة اليوم باللغة الإنجليزية بنسبة مئة في المئة، ويتم العمل على تطويرها لتكون باللغة العربية أيضاً، وأخيراً يضيف أن من أهم التحديات التي تواجههم في العمل تتمثل في عملية التخزين، كونهم يتعاملون مع كم هائل من النسخ الرقمية، التي يسعون دوماً إلى حفظها في الأوعية الحديثة والمتطورة، تبعاً للتقادم الرقمي وتطور الأجهزة، كالانتقال من أقراص الفلوبي، إلى السي دي، إلى الديسك وهكذا. وفي صدر الممر الطويل تطل المكتبة، تلك التي يعمل كل من في المركز لخدمة الباحثين الذين يقصدونها، سواء على طاولات القراءة الموزعة فيها، أو عبر الإنترنت، هناك على الطاولات ثمة شيء من الخصوصية، التي تستوقف الناظر، فالباحث موجود رغم غيابه، تنتظره الكتب التي طلبها هاتفياً، فلوقته قيمة يقدرها المركز جيداً، يقوم العاملون هناك على جمع العناوين التي طلبها، ووضع اسمه عليها مسجلاً على ورقة صغيرة ملصقة على مجموعة من الكتب التي وضعت على الطاولة، التي سوف يجلس عليها، وليس هذا فحسب، فيمكن للباحثين طلب تصوير الكتب، أو الفصول التي يحتاجونها ليصطحبوها معهم، حيث إن خيار الاستعارة غير متوفر في المركز حرصاً على عدم ضياع الكتب، والجميل أن كل هذه الخدمات يقدمها المركز مجاناً لخدمة الباحثين، ولا ينتهي العمل على تقديم أفضل الخدمات، فالخطة المستقبلية لتطوير المركز تقوم على جمع كل الكتب في مبنى واحد يحتوي على عدة طوابق مع المكتبات،حيث يكون الكتاب والباحث في مكان واحد، وهكذا تسهل عليه عملية الحصول على الكتب إن أرادها، وبمساعدة الفهرسة التي يعتني بها المركز. يعنى قسم المخطوطات بالكتب العلمية، التي كتبت في عصر ما قبل الطباعة، وهذا متعارف عليه في علم المخطوطات، حسب محمد كامل، رئيس القسم، فيقول: هذه الكتب جاوز عمر بعضها الألف سنة، وهي موزعة في مكتبات العالم، فلا توجد دولة في العالم لا تحتوي مكتباتها على المخطوطات، ولطالما راودت فكرة جمع هذه المخطوطات فكر جمعة الماجد، الذي كان يحلم بجمعها وإتاحتها للباحثين أينما كانوا، ولهذا قام بتأسيس هذا المركز، وبدأ بجمع هذه المخطوطات وصورها من مختلف بقاع الأرض، وقام بالعمل على معالجتها وترميمها في بلدانها ورقمنتها وتصويرها، وحفظها في مكتباتها الأصلية، مع أخذ نسخة مصورة منها لإيداعها في المركز لتكون رهن طلب الباحثين للاستفادة منها في أبحاثهم، ويذكر أن المركز وصل اليوم بفضل هذه الجهود الكبيرة إلى نحو 600 ألف صورة مخطوط، ولا يوجد مركز يحوي هذا الكم في العالم غير مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث، وعن المخطوطات الأصلية يذكر أن هناك عدداً لا بأس به من المخطوطات الأصلية، التي كان يملكها جمعة الماجد نفسه، بالإضافة إلى عدد من المخطوطات التي جاءت كهدايا للمركز، من بعض الملاك الذين أهدوا مكتباتهم الخاصة للمركز. وفي قاعة واسعة يعمل عدد من الفنيّين على تصوير الكتب، حيث يلزم كل منهم بإنتاج عدد كبير من الصفحات يصل إلى عشرة آلاف صفحة يومياً، ويشرف عليهم محمد حنيف مشرف قسم التصوير ويعتبر من مؤسسي المركز، فقد مر على عمله هناك اثنان وعشرون عاماً، وعن عمله يقول: أعمل على تصوير المخطوطات، والكتب، والرسائل الجامعية، ومختلف أنواع المنشورات الورقية منذ زمن طويل، واليوم أشرف على عمل القسم ووضوح الصور، فجميع ماكينات التصوير موصولة إلى جهاز الكمبيوتر الذي أجلس أمامه لأتأكد من وضوح الصور وجودتها طوال الوقت، فلا مجال للخطأ في عملنا هذا. بيئة مناسبة يحاول قسم الثقافة الوطنية أن يوفر بيئة مناسبة للباحث الذي يبحث في كل ما له علاقة في الثقافة الإماراتية قديماً وحديثاً، وكذلك أي باحث يبحث في مجال الوثائق، وتذكر شيخة المطيري رئيس قسم الثقافة الوطنية والعلاقات العامة والإعلام في المركز، أن المكتبة الإماراتية في المركز تحوي اليوم نحو 10 آلاف عنوان، وتوضح أن القسم يحوي أيضاً مكتبة بيت القصيد، وهي متخصصة بالشعر الإماراتي بنوعيه الفصيح والشعبي، بالإضافة إلى الدراسات التي تناولت الشعراء الإماراتيين في الإمارات عموماً، وحصيلة هذه المكتبة حوالي ألف عنوان، وتقول: نعمل في القسم أيضاً على توفير الوثائق التاريخية للباحثين، كما نعمل على أن نكون همزة وصل ما بين الباحثين والكتّاب الإماراتيين، هذا بالإضافة إلى قيامنا ببعض الفعاليات كاستضافة بعض الكتاب والشعراء في القسم، ومشاركتنا ببعض المؤتمرات، أما عن قسم العلاقات العامة والإعلام فتوضح أنه معني بتوطيد علاقة المركز داخلياً وخارجياً مع الأفراد والمؤسسات المهتمين بالشأن الثقافي المحلي أو العربي، بالإضافة إلى تنظيم الفعاليات والدورات، والمشاركات في المعارض والمؤتمرات العالمية التي تخص مجال اهتمام المركز، ألا وهو الكتاب، ويطمح المركز إلى التكامل مع المؤسسات الثقافية في الدولة، وحتى المؤسسات الخارجية، فهناك عدد من المكتبات التي تضم أوعية ثقافية تعنى بالشأن الإماراتي، وتؤكد أن المركز لا يبحث عن الاحتكار، فلا يدعي أنه حدود الباحث، حيث على الباحث أن ينوع من مصادر معرفته، ويتعرف الى المكتبات الأخرى، وعندما ينقص القسم بعض الكتب يعمل العاملون فيه على توفيرها، وإن كان الأمر صعباً فإنهم يعملون على استقصاء البدائل، أي إحصاء المراكز الأخرى التي تمتلك هذه البدائل، فيقدم القسم قائمة بأسماء كل المكتبات الأخرى التي يمكن للباحثين الاستفادة منها. مراحل الترميم تعتاش بعض الحشرات على الكتب، فتتغذى من صفحاتها، بينما تقضي دورتها الحياتية كاملة فيها، وتقوم وظيفة المرمّم على إيقاف هذه الحشرات، ومن ثم العمل على علاج التلف الذي أحدثته في الكتب، ومحاولة استرجاع الأجزاء المفقودة، والتي قد لا تنجح في بعض الأحيان، فيجري البحث عن النسخ المصّورة من المخطوط إن وجدت، لإنقاذ هذه الأعمال من الاندثار. ويعرف د. بسام داغستاني رئيس قسم الحفظ والمعالجة والترميم في المركز عملية الترميم بالقول: هي إعادة الجزء الناقص من أي قطعة. وعن بداية العمل في هذا المجال، يقول: حبي للفن، وولعي بالقرآن قاداني إلى البحث في النسخ القديمة منه، فوجدت نفسي مستغرقاً في فنونها، وشغوفاً بمحاولة علاج الصفحات المهترئة فيها، وهكذا أصبحت هوايتي التي رحت أطور نفسي فيها إلى أن جمعني القدر بجمعة الماجد، حيث التقى طموحه بهوايتي وتطور العمل بيننا عبر السنوات الطويلة حتى استطعنا الوصول إلى ما نحن عليه اليوم، فاطلعت على كل مدارس الترميم العالمية، واكتسبت خبرات عالية جداً في فترة وجودي معه. وعن علاقته بعمله الاستثنائي، يبوح لنا أنه في كثير من الأحيان، بعد أن ينتهي من ترميم المخطوطة يجد نفسه عاجزاً عن تسليمها، فيبقيها لفترة في مكتبه، يخرجها ليتأملها كل يوم سعيداً بها، وقد عادت إلى الحياة، ثم يطلقها لتعود إلى مكانها بعد احتفائه بها. أما عن عملية الترميم ومراحلها وأنواعها، فيوضح أنها تنقسم إلى نوعين، اليدوي، والآلي، فقبل البدء بالعمل يقوم بدراسة الحالة أولاً وبعدها يقرر، فهناك عدة أنواع من الإصابات، وتصنف إلى الإصابات الكيميائية وهي تصيب الأوراق الحديثة عادة، والإصابات البيولوجية مثل الحشرات والفطريات والبكتيريا التي تصيب الورق القديم، حيث كان مصنعاً من مواد غذائية بالنسبة لها، وهنا أخيراً الإصابات الطبيعية مثل الرطوبة والغبار والأتربة وغيرها من العوامل الطبيعية التي تؤثر في حالة الورق، ويذكر د.داغستاني أن الإنسان عبر العصور كان المصدر الأكبر لإصابات الكتب، فأغلب الحالات التي عمل على علاجها كانت إصاباتها مادية، مثل التمزيق وسوء المعاملة، ويشرح أن عملية الترميم تمر بعدة مراحل هي: التعقيم، التنظيف، المعالجة، الترميم، التجليد، والذي يجب أن يكون متناسباً مع نوع الكتاب، أو المخطوط والفترة الزمنية التي يعود إليها، والأهم أن المخطوط يتم تصويره قبل وبعد الترميم للحفاظ عليه، وأخيراً يوضح أن مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث، يعتبر المركز الأول والوحيد في العالم، الذي يصنع الورق القديم بنفس المادة الخام، والذي يستخدم في عمليات الترميم، وهو معروف بأنه الوحيد الذي يستقبل الحالات الميؤوس منها بالنسبة للمخطوطات، فتأتيه من مختلف أنحاء العالم ليعيدها إلى الحياة.