نشر على موقع بلومبرغ في 16 ديسمبر 2013 تقرير عن أسواق الذهب تحت عنوان «مع فقدان العالم للثقة بالذهب، صناديق الاستثمار تشهد هبوطا حادا بنسبة 30 %». ورغم الفزع الذي من الممكن أن يثيره مثل هذا العنوان المتشائم إلا أن صورة أخرى أكثر توازنا وأقرب للواقع يمكن أن تستشف من قراءة متأنية للتقرير. فالمقصود من العنوان هو الاستثمارات في صناديق المشتقات المقومة بالذهب في الأسواق المالية أو ما يعرف بالمختصرات ETF وCEF وETN وETR. وهي الصناديق التي ابتكرها الأسترالي غراهام تاكويل ورفضها مجلس الذهب الأسترالي سنة 2002 قبل أن يتبناها مجلس الذهب العالمي ليبدأ التداول بها على نطاق كبير في 2003. وهذه الصناديق التي لا تحتفظ بالذهب في خزائنها في بعض الأحيان، تسهل على المستثمرين التداول اليومي بالمعدن النفيس مع عدم تحمل تكاليف النقل والتخزين التي يتحملها المتداولون الأفراد في سوق التسليم الفوري. كما أنها تقلل كلفة التداول ويمكن أن تلتف على الأنظمة الضريبية في بعض الأحيان بسبب سرعة انتقال الأصول من يد إلى أخرى. ويعزو التقرير هذا التدهور في أسعار الذهب وإحجام كبار ملاك الذهب ومديري الصناديق عن شراء المزيد بل وبيع كميات كبيرة من موجوداتهم إلى أن العوامل التي أدت إلى ارتفاعه خلال الـ13 سنة الماضية، تعمل الآن بشكل عكسي. فهو لم يعد ملجأ من التضخم ومخزنا للقيمة في ضوء انخفاض معدلات التضخم في الأمريكي وتحسن الأداء الاقتصادي بصفة عامة بالرغم من طباعة مزيد من الأوراق النقدية لأن الارتفاع في القيم السوقية للأسهم المتداولة في الأسواق المالية المتوقع تحقيقها للمزيد من الارتفاعات خفف من وطأة طباعة النقود وأسهم في جذب مزيد من الاستثمارات بعيدا عن الذهب. وهذه الصناديق التي تعاني الآن من انخفاض الأسعار وتفقد معظمها وخاصة الصناديق المتداولة في البورصات الرئيسية ETF كميات كبيرة من موجوداتها بسبب البيع المكثف، لا تمثل سوى شكل واحد من أشكال تجارة الذهب العالمية. فهناك المتاجرة في سوق التسليم الفوري الذي لم يسلم أيضا من الهبوط بنسبة 35 % منها 20 % فقط في أبريل الماضي لتتداول الأونصة منه حول 1.241 دولارا من قمته التي كانت 1.921.15 دولارا في سبتمبر 2011. أما على مستوى العالم فقد ارتفع كسب القياسي للمتاجرة بالذهب 16نقطة بحسب مجلس الذهب العالمي. وهناك المتاجرة بالذهب على مستوى الأسواق الإقليمية ومنها الآسيوية التي خالفت الاتجاه الأوربي والأمريكي السائد وحققت ارتفاعات كبيرة في الطلب على الذهب حيث شكل طلب آسيا والشرق الأوسط ما يصل إلى 68 % من إجمالي الطلب العالمي مقابل 8.3 % بالنسبة لأوربا خلال اثني عشر شهراً. وتمكنت الصين من تجاوز الهند لأول مرة في الطلب على الذهب لاستخدامه كحلي ومخزن للقيمة في نفس الوقت. ويمكن أن يعزى الارتفاع في الطلب الآسيوي والشرق أوسطي إلى تسارع معدلات التضخم وتصاعد المخاطر الأمنية وعوامل عدم الاستقرار السياسي. ويورد التقرير مثالاً حيا من واقع التعاملات في سنغافورة حيث بيع الجرام بنسبة نقاوة 99.9 % بـ(50) دولارا يوم 11 ديسمبر 2013 ما يعادل 1.555 دولارا للأونصة بزيادة قدرها 24 % عن سعر سوق التسليم الفورية في لندن في نفس اليوم. وما يحدث في أسواق سنغافورة والشرق يحدث مثله وربما يفوقه في أسواق الشرق الأوسط التي يصعب الحصول على الذهب فيها بالتداول المباشر، ويتحكم الوسطاء والبنوك بأسعاره بالاتفاق الاحتكاري غير المراقب كما هو الحال في كافة السلع المستوردة الرئيسية كالسيارات والمعدات والأغذية. ولعل هامش السعر الجيد هذا إضافة إلى ارتفاع كلفة الإنتاج الجديد لأونصة الذهب الواحدة من مناجم الذهب إلى 1.200 دولار، هو ما شجع بعض البنوك الأوربية الكبرى ومنها بنك (دوتشي أ جي) و (يو بي إس أ جي) على فتح محافظ محلية في آسيا لنقل كميات من موجوداتها من المعدن من فئات الأوزان الصغيرة الأعلى طلبا من الزبائن الآسيويين لتخزينها والمتاجرة بها في مواقع مختارة من الأسواق الآسيوية المحلية. ولذلك أرى أن أسعار الذهب خاصة في صناديق المتاجرة في البورصة هي التي تصحح في أمريكا وأوربا لوجود بدائل ومشتقات استثمارية منافسة، وأشار الخبراء في جولدمان ساكس جروب لتوقعاتهم بأن يتوازن الذهب في أسواق التسليم الفوري الأمريكية والأوربية خلال 2014 حول 1.216 دولارا، وربما يشهد مزيدا من الهبوط هناك إذا ما استمر الأداء الجيد لتلك الاقتصادات. ولكن هذا لا ينطبق على كافة أقاليم العالم فنحن الآن نشهد في ضوء الغموض السياسي والأمني، وتراجع الإنتاج الجديد من المناجم وارتفاع كلفته، رحيلا للذهب باتجاه آسيا والشرق الأوسط، حيث مازال الأصفر الرنان براقا ويقوم بدوره التاريخي كوسيلة للزينة ومخزنا للقيمة وملجأ من التضخم ومن النكبات وعاديات الزمن.