الأزمة التي تعصف بتركيا على حلفية قضايا فساد والنزاع بين حكومة رجب طيب أردوغان والقضاء حول تطبيق القانون، هي إحدى الثمار المُرّة للانفراد بالحكم طيلة أحد عشر عاماً . يثبت استئثار حزب العدالة والتنمية بالحكم حتى لو تمت بانتخابات غير مطعون بها، أنه يفتح الطريق من دون قصد أمام الفساد والقمع وإدارة الظهر لمطالب مختلفة تعبر عنها شرائح اجتماعية شتى . هذا هو الدرس الجوهري لهذه الأزمة التي وجدت بدايات لها في الربيع الماضي مع احتجاجات "تقسيم" في قلب إسطنبول . وحيث تم التعامل معها بمزيج من العنف المفرط والاستخفاف الشديد، وإحالة أسبابها إلى مؤامرة خارجية لإفساد موسم السياحة في الصيف . الآن مع انفجار فضيحة فساد تورط فيها وزراء وأبناؤهم، وأدت لخروج عشرة وزراء من الحكومة وما أثاره ذلك من نقمة واسعة في الشارع التركي، فإن التفسيرات الحكومية تتحدث عن مؤامرة لاستهداف تركيا وهي تنشىء ثالث مطار في العالم، وتبني مفاعلاً نووياً، ويعزى السبب في كل ما يجري إلى تدخلات سفراء أجانب بدلاً من الاعتراف بأوجه قصور داخلي، وعوضاً عن الإقرار بأن حكم حزب واحد حتى لو كان منتخباً، يضعف الرقابة البرلمانية، ورقابة فاعلين سياسيين آخرين تم اقصاؤهم لمجرد "أننا نتمتع بأغلبية برلمانية تتيح لنا الانفراد بالحكم" . حزب العدالة لم يتعلم الدرس لا من تجربة الآخرين ولا من تجربته هو . فقد صعد هذا الحزب بعد أن عملت أحزاب قومية ويمينية وليبرالية على مدى عقود على استبعاد المكون الإسلامي رغم أنه يعتنق (أو كان يعتنق . .) مبدأ العلمانية المؤمنة، وكانت النتيجة أن صعد هذا الحزب منذ العام 2002 مستفيداً من أخطاء غيره والآن فإنه في واقع الحال يكرر الخطأ ذاته باستبعاد الآخرين من دائرة المشاركة وصنع القرار، الأمر الذي انتج مروحة واسعة من المعارضين تضم تقريباً كل من لا ينتمي لحزب العدالة والتنمية . وأبعد من ذلك فإن حزباً إسلامياً صاعداً يدعى "الخدمة" بقيادة معارض يقيم في الخارج (فتح الله غولن) سبق أن تحالف مع حزب العدالة لكن الحزب الأخير الحاكم ابتعد عنه، وضمن لنفسه الانفراد والاستئثار حتى في الدائرة الإسلامية . نعم ما زال حزب العدالة يتمتع بحجم كبير لكنه قابل للتشرذم والتفسخ مع ضغوط الشارع وافتقاد هالة النزاهة التي كانت تحيط به بحق من قبل، وتلاقي أحزاب المعارضة رغم تباعدها على المطالبة باستقالة الحكومة . فلم يعد أمام أردوغان سوى استنهاض قواعد حزبه، ولكن بغير فائدة تذكر فمهما نما وجود حزب ما، فإنه لن يكون أكبر من الشعب بأطيافه السياسية والاجتماعية والثقافية المختلفة . خلال سنوات حكمه وحكم حزبه سعى أردوغان لإقصاء المؤسسة العسكرية عن التحكم بالقرار السياسي، وبإخضاع هذه المؤسسة للقانون شأنها شأن المؤسسات الأخرى، وتم تقديم أعضاء بل قيادات منها للقضاء، وهو الأمر الذي ارتضته هذه المؤسسة، غير أن تطورات الأسبوعين الماضيين كشفت بين ما كشفته عن تبديلات على رؤوس أجهزة الشرطة وحتى القضاء، ومحاولة إلزام أجهزة الشرطة برفع تقاريرها ومحاضر تحقيقاتها إلى مراكز قيادية فيها قبل إحالتها إلى القضاء، مما اشتم منه رائحة سياسية، فتدخلت المحكمة العليا وأبطلت هذا القرار السياسي، وقالت المؤسسة العسكرية كلمتها بأنها احترمت قرارات سابقة للحكومة تتعلق بهذه المؤسسة، لكنها من جانبها سوف تسهر على تطبيق القانون ومنع تجاوزه . ومغزى ذلك ضمن سلسلة الأخطاء وعدم الإفادة من التجارب، أن حكومة حزب العدالة باتت أقرب إلى اقتراف الأخطاء التي كانت تأخذها على الآخرين ومنهم المؤسسة العسكرية . وبهذا باتت الشقة تتسع أكثر بين حكومة حزب العدالة وسائر مكونات المجتمع التركي، ويعود ذلك في الأساس إلى الاستئثار بالحكم ورؤية واقع الأمور من منظور واحد . وإذ فاخر أردوغان على الدوام وكان له الحق في ذلك بارتقاء بلاده في ظل حكم حزبه إلى مستوى يقترب من مصاف الدول الديمقراطية، فإن الخيار الديمقراطي الرشيد في مثل هذه الظروف هو الاعتراف بالأزمة، وهي أزمة سياسية أولاً وأزمة ثقة ثانياً، والكفّ عن التهويل بمؤامرات خارجية كما هو حال المستبدين الذين يرفضون الإصغاء لنبض شعويهم ويحيلون المشكلات الداخلية إلى عوامل خارجية، والانتقال من ذلك إلى الاحتكام للشعب بالدعوة إلى انتخابات جديدة يقول فيها الشعب كلمته، وهذا هو الخيار الذي تلجأ إليه الأنظمة الديمقراطية عادةً حين تواجه أزمة سياسية حادة كالأزمة الحالية في بلاد الأناضول، ومما يُمكّن من انتخاب برلمان جديد تنبثق عنه حكومة واسعة وائتلافية بالضرورة، مهما بلغت حظوظ الفائزين فيها من مكاسب وحجوم، فمثل هذه الحكومة هي وحدها التي تشكل صمام أمان، وتفتح قنوات اتصال وتواصل مع سائر القوى والمكونات الاجتماعية السياسية، وتقطع الطريق على أي حكم أحادي أو وحيد اللون يؤسس للاستبداد . وسوى ذلك فإن الأزمة قابلة للتعمق، وهو ما يلحق الضرر بالبلد، وقد دلّت المؤشرات في الأسبوع الماضي انخفاض ملحوظ في قيمة العملة الوطنية أمام العملات الأجنبية، إضافة إلى خسائر السوق المالي (البورصة)، فضلاً عن الآثار المنتظرة في وتيرة الحياة الانتاجية، وفي قطاع السياحة وغيره من القطاعات. * نقلا عن "الخليج" الإماراتية ** جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.