يعد مصطلح الاستراتيجية من أكثر المصطلحات تداولاً في المناقشات السياسية في منطقتنا العربية، بحيث يحشر المصطلح في السياقات السجالية، إما لإثبات وجاهة فكرية أو لإفحام الطرف الآخر، أو حتى كديكور لكلمات لا تعني بالضرورة شيئاً محدداً. وبالرغم من انتشار مصطلح الاستراتيجية وذيوعه؛ فإن دلالاته غير الواضحة عند الغالبية العظمى من الناطقين به والمستمعين إليه، تحوله ليصبح مثل نكتة سخيفة. ومرد ذلك أن من ينطق به لا يوصل رسالة لغوية محددة إلى سامعه، والأخير يتصرف وكأنه يعرف معناه مع أنه لا يعرف في الواقع، فتكون النتيجة كالسياسة العربية تماماً: هزل مستــمر في غــير موضعه. يشترك مصطلح الاستراتيجية مع مصطلحات جامعة مانعة أخرى مثل «الفلسفة» و«الديموقراطية»، في كونها كلها ذات أصل يوناني واحـد مركــب مــن زواج معنــيين لينجــبا المصــطلح الذي يحمل معنى مغايراً عن المعنيين الأبوين. المصــطلح الأول مشتــق مــن معنيــيــن هــما فيلــو ـ سوفــيا أي محــبة الحكمة، والثاني من ديمو ـ كراتيس أي حكم الشعب، والثالثة سترات ـ ايجوس أي قائد الجيش، ولذلك تكون «الاستراتيجية» تحديداً هي قيادة الجيوش. نشأت الاستراتيجية، باعتبارها علماً غامضاً ومتجدداً، منذ أزمان سحيقة، وكانت مرادفاً لتطور المجتمعات القديمة من مجتمعات بدائية إلى مجتمعات تسعى إلى حماية نفسها وهزيمة خصومها. وارتبط صعود الإمبراطوريات العظمى وهبوطها عبر التاريخ بعلوم الاستراتيجية، مثلما كان تغير خرائط العالم القديم والحديث دوماً رهناً بالعمليات العسكرية الكبرى. ولذلك يرتبط تاريخ العالم ارتباطاً وثيقاً بالاستراتيجية، حيث عكست المعارك الحربية الكبرى التي خلدها التاريخ مثل معارك رمسيس الثاني، والإسكندر الأكبر، ويوليوس قيصر، وهنيبعل، وجنكيز خان، ونابليون بونابرت، وعياً استراتيجياً فائقاً. أما اليوم فالاستراتيجية هي علم العلوم التي تدمج في طياتها القدرات والمعارف، للوصول إلى تحقيق الأهداف بطريقة منهجية ومخططة. وتعرف الاستراتيجية ـ بشكل عام ومبسط ـ على أنها المجهود المخطط الطويل المدى لتحقيق الأهداف الموضوعة سلفاً، ولكن مصطلح الاستراتيجية لم يعد مقتصراً على العلوم العسكرية فقط كما في الماضي، بل صار مستخدماً على نطاق واسع في حقول معرفية مختلفة مثل السياسة والاقتصاد، وحتى أنواع الرياضة البدنية أيضاً. ولذلك ينتشر مصطلح «الاستراتيجي» انتشاراً كبيراً في عصرنا الراهن بكل لغات العالم وليس العربية فقط، مع ما للأخيرة من سبق بكثافة الاستخدام، فيمكنك أن تسمع كثيراً مصطلحات مثل: استراتيجية الهجوم، استراتيجية الدفاع، دون أن تعرف للوهلة الأولى ما هي الدلالة المقصودة من استخدام المصطلح، هل هي وصف المعارك العسكرية أو حسم الصراعات السياسية أم كسب المنافسات الاقتصادية؟ وبالإضافة إلى ذلك، فقد اندرجت عمليات التمويه والخداع تاريخياً تحت مصطلح «الاستراتيجية»، حيث ظهرت طرق التمويه في الشرق الأقصى وبالتحديد في الصين. هناك من أزمان غابرة تم رصد طرق التمويه وتكتيكات الخداع، كما يظهر في كتاب «فن الحرب»، الذي ألفه سونزي، قبل خمسمئة عام من الميلاد. وما زال كتاب «الست وثلاثون خطة» الذي ألفه الاستراتيجي الصيني تان داوجي، قبل أكثر من ألف وخمسمئة عام، من أهم الكتب في المكتبات الصينية. ويحتوي الكتاب ـ للمفارقة ـ على طريقة للحصول على عروس بطريقة استراتيجية! أما في عصر مينغ (1368ـ 1644)، فقد أُعيد الاعتبار للأعمال الاستراتيجية الكلاسيكية الصينية، ومن طباعات هذه الفترة أمكن للعالم التعرف على فنون الحرب والاستراتيجيات الصينية. وفي الهند يعد كتاب «أرثاشاساترا»، الذي كتبه المؤلف الهندي كاوتيليا عام أربعمئة قبل الميلاد، العلامة الأبرز على الفكر الاستراتيجي في شبه القارة الهندية. ولا يختلف العرب عن تراث الشرق، إذ اعتبرت لديهم عمليات التمويه والخداع جزءاً من التراث الاستراتيجي منذ قرون. ويبدو ذلك بوضوح في كتاب بعنوان «رقائق الهلال في دقائق الحيل»، الذي تم تأليفه في العام 1500 ميلادية، وتحتفظ المكتبات الأوروبية بنسخ منه، ولكنه لا يلقى انتشاراً لدينا نحن العرب للأسف. تغير الحال في أوروبا منذ القرن الثاني عشر على الأقل، إذ بدأت طرائق التمويه تنتشر في الفكر الاستراتيجي الأوروبي على يد المفكر العربي الأصل ابن ظافر الصقلي. وحيث توقف ابن ظافر بدأت الشخصية الأوروبية الأشهر في هذا المجال ميكيافيللي صاحب كتاب «الأمير»، والذي ذهب علماً من وقتها وحتى اليوم على البراغماتية. وفي العصور اللاحقة اشتهر الفيلسوف الألماني أرتور شوبنهاور، المتوفى في العام 1860، باعتباره «أبو التمويه السياسي» في أوروبا. حاول الاستراتيجيون العسكريون طوال التاريخ وضع لائحة، أو قائمة من المبادئ، التي تضمن الاستراتيجيات الناجحة، ومن أشهر هؤلاء الصيني سونزي الذي ألّف كتاب «صن تسو»، أي فن الحرب، الذي استعرض خمس عشرة طريقة للتمويه والخداع على درجة عالية من التعقيد والدهاء. أما نابليون بونابارت فقد وضع في المقابل 115 طريقة للتمويه والخداع؛ مع أنه وقع في حبائل كثير من الطرق التي ألفها بنفسه إبان معاركه مع روسيا. أما الجنرال ناتان بدفورد فورست، قائد القوات الفيدرالية الأميركية في الحرب الأهلية الأميركية، فقد صك مقولة واحدة تلخص أفكاره: «فلتكن في الميدان قبل خصمك وفي جانبك العدد الأكبر من الرجال». وتحمل المقولات المأثورة عن الاستراتيجيين قدراً مذهلاً من المعاني، ولها في أحيان كثيرة صلاحية تطبيقية في عصرنا الراهن. ولنتأمل هنا كتاب «فن الحرب» الذي أتينا على ذكره سابقاً، فنجد فيه مقولة عبقرية: «أسرع إلى المكان الذي لا يتوقع الخصم أن تكون فيه»، أو مقولة الإستراتيجي الأشهر الألماني كارل فون كلاوزه فيتز، صاحب المرجع الرائع «عن الحرب»، «الدفاع أسهل من الهجوم في حالة تساوي القوى». وفي المسار العبقري ذاته تصب مقولة ميكيافيللي: «ليس من الحكمة أن تدافع عن شيء من الواجب أن تتخلى عنه». ترتبط الاستراتيجية والتكتيك برباط غير منفصم، فكلاهما يستخدم أدوات معينة في مدى زماني ومدى مكاني محدد لتحقيق أهداف بعينها. ولكن الاستراتيجية تهدف إلى تحقيق الأهداف الأعلى والأسمى، فيما يهتم التكتيك بتحقيق الأهداف المرحلية القصيرة الأجل، وعملية خلق الاستراتيجية يطلق عليها التخطيط الاستراتيجي. بمعنى آخر، تمثل الاستراتيجية الهدف النهائي أو الخطة الكبرى، سياسياً أو اقتصادياً أو عسكرياً، أما التكــتيك فهو عبارة عن الإجراءات التي يتم عبرها الوصــول إلى أهــداف قصــيرة ومتوسطــة الأجــل. ويفرّق كــلاوزه فيتز بين التكتيك والاستراتيجية على النحو التالي: «التكتيك هو فن استعمــال القــوة العســكرية في المعــارك، أما الاستراتيجية فهي فن استغلال المعارك لأجل غرض الحرب الأعلى». ولذلك تحدد الاستراتيجية الوقت والزمان والوسائل والأهداف، فيما لا يناقش التكتيك أياً من هذه الخطوط العريضة التي يعدها الاستراتيجيون، بل يبدأ منها. يشبه التكتيك التضحية بالبيادق في لعبة البشر الذهنية الأرقى الشطرنـج، كما يشــبه «الفاول التكــتيكي» في لعــبة كرة القدم. باختصار، يمكــنك أن تقــوم بتكتــيكات دون أن يكون عندك استراتيجية. ولكن غياب الاستراتيجية يمنع ترجمة النجاحات الوقتية التكتيكية إلى تحقيق أهداف مخطط لها سلفاً، فلا تلبث النجاحات الصغيرة أن تذهب أدراج الرياح. وبتطبيق تلك المقولات الانطلاقية على منطــقتنا، نجد أن اختلاط مفاهيم ووظائف «التكتيك» و«الاستراتيجية» يؤديان - في أحيان كثيرة - إلى هدر الكثير من الطاقات المتوافرة وغياب العديد من النجاحات الممكنة. عساه كان مقالاً استراتيجياً وكل عام وأنتم بخير! * نقلا عن "السفير" اللبنانية ** جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.