البحث العلمي هو الطريق الواضحة للوصول إلى العلم، والعلم هو إدراك الأشياء على ما هي عليه في الواقع إدراكاً جازماً، وبهذا فإن البحث هو الطريق الواضحة لمعرفة الحقيقة العلمية، وقد نظر علماء المسلمين في الآيات القرآنية التي تَـحُضُّهم حضَّاً على ألا يَقبلوا دعوَى من غير حجَّة ولا برهان، والتي منها قوله تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)، وقوله تعالى: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، وقوله تعالى: (وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ)، وقوله تعالى: (قُلْ هَلْ عِندَكُم منْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ)، وقوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، ونظروا كذلك في أقوال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، مثل قوله: (لَو يُعْطَى النَّاسُ بِدعوَاهُمْ، لادَّعَى رِجَالٌ أَموالَ قومٍ ودِمَاءَهُم، ولكنَّ البيِّنةَ على المُدَّعِي، وَاليَمين عَلَى مَن أَنكَر)، ونظروا في أقوال الصحابة الكرام، كقول سيدنا أبي بكر الصديق: (أيُّ سماءٍ تُظلُّني وأيُّ أرضٍ تُقلُّني إذا قلتُ ما لا أعلمُ)، واستناداً إلى ذلك فإنهم تأمَّلوا في الحقائق العلمية، فوجدوا أنَّ أيَّ معلومة تصل إلى الإنسان، فإنها تصل إليه عبر أحد طريقين، طريق الدَّعاوى وطريق الأخبار، فهي إما أن تكون دعوَى تُزعَم أو خبرٌ يُنقل، فلا سبيل لوصول معلومةٍ إلى عقل الإنسان من غير هذين الطريقين، فوضَعوا من أجل ذلك قاعدةً عامَّةً للتَّحقُّق مِن صحَّة الدَّعاوَى والأخبار، وهي قولُهم: إن كنت ناقلاً فالصحَّة أو كنت مُدَّعياً فالدليل، ولم يكن بحثهم عن الحقيقة استكشافاً مجرَّداً للمعرفةِ، حُبّاً في الاطلاع، بل كان دِيناً يَتديَّنون به؛ للوقوف على الحقيقة، والسلامة مِن الوقوع في الظنون والأوهام، قال الله تعالى: (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) ولم يكن بحثُهم كذلك انتصاراً لحظوظِ النَّفس، بل كان بحثُهم غايته الوصول للحقيقة المجرَّدة، بعيداً عن الهوَى، ومن بديع ما فعلَهُ علماءُ المسلمين، أنهم أطلَقوا على مَن سَلَّطوا أهواءهم القلبيَّة على دعاواهم ومزاعمهم، لقب: أهل الأهواء؛ لأنَّ هذا السلوكَ نقيضُ ما جاءت به الشريعة الإسلامية من تحرير العقول مِن رِقِّ الهوى، وقد قال تلميذُ الإمام مالكٍ، الإمامُ الحافظُ عبدُ الرحمن بنُ مَهدِيّ: (أهلُ العلم يكتبون ما لهم وما عليهم، وأهلُ الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم)؛ لأن دِينَ المسلمين قد فرضَ عليهم التَّجرُّدَ في البحث عن الحقيقة، وهكذا نشأ من وراء ذلك كلِّه عِلْمَان جليلان: الأول: علمُ الإسناد للتحقُّق من صحَّة ما يرِدُ من أخبار، فإنْ تعلَّق الأمرُ بالأخبار النبوية يقال له علوم الحديث، فقسَّموا الأخبار من حيث وصولها إلينا إلى متواترٍ وآحاد، ومن حيث صحَّتِها مِن عَدَمِهِ إلى صحيح وحسنٍ وضعيفٍ وموضوع، فكان علمُ الإسناد من خصائص هذه الأمَّة، قال الشيخ أبو الحسن عليٌّ القاري: (اعلم أن أصل الإسناد خَصِيصَةٌ فاضلةٌ من خصائص هذه الأمة، وسُنَّةٌ بالغةٌ من السنن المؤكدة، بل من فروض الكفاية) والعلم الآخر: علمُ أصول الفقه؛ للتحقُّق من صحَّة ما يرِدُ على العقل من علوم، فَوظيفةُ عِلْم أصول الفقه أنه علمٌ يَضع لكلِّ دعوَى سبيلاً للتحقُّق من صحَّتها، فالدعاوى المتعلِّقة بالأمور التجريبية، كالطبِّ والكيمياء، سبيل التحقُّق منها الملاحظةُ والتجربة، والدعاوى المتعلِّقة بالمجرَّدات، كعلم الرياضيات وعلم النفس وكثيرٍ من علوم التربية والاجتماع، سبيلُ التَّحقُّقِ من صحَّتها القياس والدلالات، والدَّعاوَى المتعلِّقة بالقضايا التاريخية والغيبية، سبيل التحقُّق من صحتها معرفةُ صحَّةِ النِّسبة بين الخبر و مصدره، وهكذا وضع علماؤنا لكلِّ دعوَى دليلَها المناسب لها، هذا بيانٌ موجزٌ لمنهج البحث عن الحقيقة عند علماء المسلمين، نراهُ واقعاً ملموساً سارَتْ عليه مؤلَّفاتُ علمائنا، أما ما رأَيتُه في الحضارة الغربية المعاصرة، فقد ساروا في إثبات الدعاوَى المتعلِّقة بالأمور التجريبية على منهج الملاحظة والتجربة، وهو سَيرٌ صحيحٌ، ولذلك تطوَّرتْ عندهم هذه العلوم ونَـمَتْ، أما الدعاوى المتعلِّقة بالمجرَّدات أو بالتاريخ، فلم أرَ لهم منهجاً واضحاً يمكنني أن أَتحدَّث عنه، وكذلك الأمر فيما يتعلَّق بتحقيق النسبة بين الخبر وبين مصدره.