لطالما سعى القادة الأكراد إلى رفع شعارات الحكم الذاتي وصولاً إلى المطالبة بدولة قومية كردية، حيث اتخذت هذه الشعارات أشكالاً وأنواعاً مختلفة لجهة الوسائل والآليات؛ إلا أن ما يجري حالياً في كردستان، وبالتحديد على الحدود مع كل من سوريا وإيران، وبقية المحافظات العراقية الأخرى، يشي بتوجه تنفيذي لاستكمال ما تبقى من مقومات الدولة الكردية، وبالتحديد ترسيم الحدود، ولو من جهة واحدة، وبوسائل هي أقرب إلى صور الفصل العنصري. فحكومة إقليم كردستان تواصل حفر خندق حول حدودها المفترضة حاسمة ذلك عبر تجاوز الآليات الدستورية، كهوية الأراضي المتنازع عليها في العراق، وفي وقت تصعّد فيه قيادات الإقليم خطواتها العملية والتنفيذية نحو الانفصال. فحكومة إقليم كردستان، تواصل حفر خندق بطول 1400 كيلومتر وعرض ثلاثة أمتار وعمق ثلاثة أمتار أيضاً، لجهة ربيعة في محافظة نينوى الحدودية مع سوريا، مروراً بمناطق عدة في المحافظة عينها، وصولاً إلى مناطق أخرى في محافظة كركوك، وانتهاءً بكفري وجلولاء في محافظة ديالى، أي عند الحدود الإيرانية. واللافت في المشروع الذي وصل إلى مراحله النهائية معطيات عدة، أبرزها: عمليات الحفر جرت من دون استشارة السلطات المركزية العراقية، في أيٍّ من تفاصيله، إذ إن التجاهل سبقه العديد من الأفعال المماثلة. والجديد في الأمر، أن حكومة الإقليم ضمّت معظم المناطق المتنازع عليها بين بغداد وأربيل، وفي مقدمها محافظة كركوك وأنحاء سنجار وخانقين وغيرها. جرى ذلك خلافاً للفقرة الثانية من المادة (140) من الدستور العراقي، التي تنص على أن حل الخلاف حول المناطق المختلف عليها، تبدأ بالإحصاء وتنتهي باستفتاء إرادة المواطنين، وهو تجاوز للقواعد الدستورية وقفزاً على إرادة المكونات العراقية غير الكردية. واللافت في ذلك، أن المناطق التي يتم اقتطاعها من العراق، هي مناطق كركوك الغنية بالنفط الواقعة في الوسط الشمالي، والتي تضم خمسة حقول نفطية، تتقاسم حكومتا بغداد وأربيل عمليات الإنتاج فيها، على أن يوفر لشركة النفط العراقية 250 ألف برميل يومياً، ويسمح لإقليم كردستان بتصدير 300 ألف برميل يومياً، عبر خطوط ممتدة بين الإقليم وتركيا. يشار إلى أن الإقليم لم يسلّم العراق حتى آب 2015، سوى 44% من الكمية المتفق عليها في الموازنة. ما يعني أن حكومة الإقليم تمسك عائدات كركوك في حين توفّر السلطات المركزية 17% من قيمة نفقات الإقليم في الموازنة العامة، إضافة إلى ذلك، عمدت أربيل إلى توسيع وتركيز آليات السيطرة على شركة نفط الشمال التابعة لبغداد، من خلال برنامج تضمن تقديم الدعم الفني وبناء خط أنابيب، وبذلك يصبح خندق كردستان وسيلة لضم صناعة النفط في كركوك بشكل كامل للإقليم، في حال تعرّض اتفاق تقاسم العائدات إلى خلافات في المستقبل، وبوادرها قائمة حالياً. أما المنطقة الثانية التي اقتطعها خندق كردستان، فهي بلدة سنجار ذات الأغلبية الإيزيدية الواقعة في محافظة نينوى، خاصة بعدما أعلن رئيس الإقليم، مسعود البرزاني، تحرير سنجار من مسلحي "داعش" بمساندة التحالف الأمريكي، ونيته تحويل البلدة إلى محافظة، ويبدو واضحاً أن المشروع بدأ يسلك طريقه إلى التنفيذ، في ظل خروج المدينة عملياً من بين المناطق المتنازع عليها. وما يعزز خريطة الطريق التي مشى فيها الإقليم حالياً، ما يظهر من حوادث مفتعلة في بعض المناطق لتشريد العرب منها، وهذا ما وثقته منظمة العفو الدولية (أمنستي)، في مناطق كركوك وديالى ونينوى. يشار إلى أن حفر الخندق يتم بإشراف خبراء أمريكيين وبريطانيين وفرنسيين وألمان، وفي خلاصة القول، يظهر أن حفر الخندق حول إقليم كردستان وتعزيزه بحصون، وإحاطته بأسلاك شائكة وتلغيمه بمواد متفجرة، إنما الهدف منه ترسيم حدود الإقليم، وليس حماية الأكراد من السيارات المفخخة وفق ما يروّج له. وما يعزز ذلك التوجه تصريحات رئيس الإقليم مسعود البرزاني، إلى صحيفة (الغارديان) البريطانية، بأن العراق مقسم، والثقافة الموجودة ليست ثقافة تعايش، مضيفاً:إذا لم نتمكن من العيش معاً، فعلينا أن نعيش مع بدائل أخرى. ورأى البرزاني أن اتفاقية "سايكس بيكو" فشلت، والشرق الأوسط بات بحاجة إلى اتفاق دولي جديد، يمهد الطريق لإقامة دولة كردية. إن الخوف كل الخوف، أن يصبح خندق كردستان وجدارها، كجدار الفصل العنصري الذي أنشأته إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو أمر لطالما توجس العرب منه، فهل سيلدغ العرب من الجحر مرتين، كما تعودوا؟