توقع مختصون اقتصاديون أن يشهد العالم موجة من الانخفاض السعري في جميع السلع الصناعية والمعمرة التي تبقى في السوق لأكثر من 3 سنوات وخصوصا المعدات الهندسية والأجهزة الكهربائية والمنتجات المنزلية وحتى تكلفة البناء والتشييد في ظل تراجع أسعار عديد من المعادن كالحديد والنحاس بالاضافة إلى السيارات، مشيرين إلى أنه ستترافق في الأغلب مع تلك الموجة تراجعا في أسعار السلع النهائية والوسيطة وخصوصا الصناعية بانخفاض معدلات الأرباح في القطاع الصناعي. يأتي هذا التوقع في وقت تعاني فيه أسواق الأسهم على المستوى العالمي حالة اضطراب شديدة، بينما تمر أسواق النفط بموجة من الانخفاض السعري المتواصل، أما على مستوى أسعار السلع الأولية فحدث ولا حرج، حيث تبدو الصورة شديدة القتامة خاصة للبلدان المنتجة. وتوقع تقرير صادر عن البنك الدولي أول أمس تراجعا في أسعار 80 في المائة من السلع الأولية في العالم نتيجة لزيادة المعروض وانخفاض الطلب، وتباطؤ النمو في الاقتصادات الناشئة. ويبدو أن السؤال المطروح هو حول كيفية انعكاس ذلك التراجع على المستهلكين في العالم، وتحديدا على أسعار المنتجات النهائية التي يدخل في إنتاجها عديد من السلع الأولية، وهل يمكن أن يؤدي هذا الانخفاض إلى مزيد من تقلص معدلات النمو الاقتصادي دوليا، أم سيؤدي إلى زيادة الطلب العالمي ومن ثم سيسهم ذلك في استعادة الانتعاش الاقتصادي الغائب منذ سنوات؟. وفقا للنظرية الكلاسيكية فإن زيادة العرض بما يفوق الطلب يؤدي إلى انخفاض السعر، ومن ثم يتوقع بالتالي أن تشهد أسعار أغلب المنتجات النهائية التي يدخل في إنتاجها السلع الأولية تراجعا في أسعارها. وتبدو الصورة أشد وضوحا في القطاع الصناعي الصيني الذي يعد أحد أكبر القطاعات الصناعية في العالم استهلاكا للمواد الأولية، إذ تشير البيانات الصادرة أمس إلى أن انخفاض أسعار السلع الأولية لم يؤثر إيجابا على وضع القطاع الصناعي الذي واجه ولأول مرة منذ عام 2000 انخفاضا في معدل الأرباح بنحو 2.3 في المائة العام الماضي مقابل أرباح بلغت 3.3 في المائة عندما كانت أسعار المواد الأولية أكثر ارتفاعا، وأرجع مختصون صينيون هذا التراجع لمشكلات هيكلية من بينها فائض الإنتاج، مؤكدين أن تراجع أسعار النفط والمواد الأولية لعب دورا سلبيا في خفض أرباح القطاع الصناعي. ومع هذا فإنه لا يزال هناك تباينا في الآراء بين الاقتصاديين من جانب، ورجال الأعمال من جانب آخر حول تأثير انخفاض أسعار المواد الأولية على السلع النهائية وخصوصا الاستهلاكية منها. البروفيسور فينسنت هاربر أستاذ التجارة الدولية ورئيس قسم الاقتصاد المقارن في جامعة كمبريدج يؤكد أن الوضع الاقتصادي الدولي أصبح أكثر تعقيدا من أن تطبق عليه النظرية الاقتصادية الكلاسيكية، فانخفاض أسعار النحاس مثلا لا يعني بالضرورة انخفاض أسعار المحركات الكهربائية التي يدخل في صناعتها النحاس بكثافة، والسبب الرئيس في ذلك أن عملية التصنيع على المستوى العالمي يهيمن عليها ما يمكن وصفه بالاحتكارات الصناعية الكبرى سواء كانت داخل كل دولة أو بين رؤوس الأموال المستثمرة في تلك الصناعة سواء على المستويين الإقليمي والعالمي. ويضيف لـ"الاقتصادية"، أن انخفاض أسعار المواد الأولية ليس العامل الرئيس في انخفاض أسعار المنتجات النهائية، وإنما يكمن العامل الأساسي وراء انخفاض قيمتها إلى التطور التكنولوجي واختراع معدات أو سلع أخرى جديدة بمواصفات تكنولوجية أكثر كفاءة، فعلى سبيل المثال انخفاض المتوسط السعري لوحدة الهاتف المحمول أو التلفزيون لا يعود إلى انخفاض سعر طن النحاس وإنما يعود لإنتاج نوع جديد من الهواتف المحمولة أو التلفزيونات الأكثر تطورا والأعلى كفاءة. الدكتورة تينا بادي أستاذة الاقتصاد الدولي في جامعة ليدز، تعتقد أن عديدا من المنتجات النهائية والسلع الوسيطة في العالم ستشهد انخفاضا خلال الفترة المقبلة جراء انخفاض أسعار عديد من السلع الأولية، لكنها تشير إلى أن هذا الانخفاض سيكون طفيفا وبمعدلات منخفضة لا تقارن بما يشبه الانهيار السعري لعديد من السلع الأولية في الوقت الحالي، ومن ثم إذا كان البعض يعتقد أن تراجع قيمة السلع الأولية سيشجع على زيادة الطلب العالمي على السلع النهائية نتيجة انخفاض تكلفتها فهذا تصور مبالغ فيه. وأضافت لـ"الاقتصادية"، أن العامل الرئيس في تكلفة إنتاج أغلب السلع التكنولوجية مثل الكومبيوترات أو أجهزة الهواتف المحمول أو حتى السلع الهندسية لا يعود إلى المواد الصناعية بقدر ما يعود إلى تكلفة التكنولوجيا المستخدمة، كما أن ارتفاع كفاءة الإنتاج يؤدي بصفة عامة إلى استخدام ذات الكميات السابقة من المواد الأولية لإنتاج كمية أكبر من المنتجات النهائية. ولا تلقى جهة النظر الاقتصادية تلك قبولا لدى عدد من الصناعيين في اتحاد الغرف الصناعية البريطانية، الذين يعتقدون أن انخفاض أسعار المواد الأولية لا يعد بالضرورة خبرا سارا بالنسبة لهم. وأوضح لـ "الاقتصادية"، دافيد جار من اتحاد الغرف الصناعية البريطانية، أن انخفاض أسعار المواد الأولية سيؤدي حتما إلى خفض تكلفة الإنتاج، وهذا سيؤدي إلى ضرورة خفض السعر النهائي للمنتج، إلا أن انخفاض السعر النهائي لا يعني بالضرورة - وفقا لما يقول - زيادة الطلب نظرا للظرف الراهن في الاقتصاد العالمي. وأشار دافيد جار إلى أن الوضع الاقتصادي العالمي يشهد معدلات نمو منخفضة وبطيئة سواء في الصين أو الاتحاد الأوروبي والاقتصادات الناشئة، ويترافق ذلك مع اضطراب في البورصات العالمية، وفي مثل هذه الظروف سيكون السلوك الاقتصادي المتوقع من المستهلكين هو الحد من الإنفاق حتى تتضح الصورة، بل إن انخفاض أسعار السلع النهائية قد يكون مشكلة للمنتجين، لأن المستهلك في مثل تلك الظروف يتوقع مزيدا من الانخفاض السعري مستقبلا فيحجم بذلك عن الشراء الآن على أمل المزيد من التراجع في الأسعار المستقبلية، وهذا يؤدي إلى انخفاض معدلات التضخم، ومن ثم يفقد القطاع الصناعي وقطاع البناء والتشييد الرغبة في ضخ مزيد من الاستثمارات في الأسواق، وهذا هو المدخل الرئيس للركود العالمي. وجهة النظر تلك تلقى دعما من توماس فرانك كبير المحللين الاستراتيجيين في بورصة لندن، الذي يعتقد أن انخفاض أسعار المنتجات النهائية الصناعية نتيجة تراجع أسعار المواد الأولية سيحمل أنباء سيئة للاقتصاد الدولي. وأضاف لـ "الاقتصادية"، أن انخفاض أسعار المنتجات النهائية من الغسالات الكهربائية اليابانية الصنع على سبيل المثال نتيجة انخفاض أسعار المعادن المستخدمة في العملية الإنتاجية، سيرفع من قدراتها التصديرية، لكن هذا سيواجه بخفض مماثل أو أكبر من الشركات الألمانية أو الأمريكية المنافسة، وهذا بلا شك سيعود بشكل إيجابي على المستهلك، لكنه سيؤدي إلى تراجع في الميزان التجاري للبلدان المصدرة، ومن ثم يزيد العجز في ميزان المدفوعات وينعكس سلبا على الميزانيات العامة ومعدلات النمو. ويتوقع فرانك أن يشهد هذا العام ارتفاعا حادا في معدلات البطالة على المستوى العالمي، جراء تراجع أسعار عديد من أسعار المعادن الصناعية الأولية كالنيكل والحديد والرصاص والزنك، وسيدفع تراجع الأسعار إلى خفض الإنتاج في عديد من المناجم حول العالم، ما سيؤدي إلى إنهاء خدمات عديد من العمال وزيادة البطالة في البلدان المنتجة للسلع الأولية مثل الصين واستراليا وإندونيسيا والبرازيل وجنوب إفريقيا. وقال فرانك، إن تراجع البطالة بدوره يعني انخفاض القوى الشرائية في تلك البلدان التي تعد مستوردا رئيسا لعديد من السلع الصناعية النهائية أو الوسيطة، وبهذا ستواجه السلع النهائية والوسيطة بقوتين اقتصاديتين سلبيتين الأولى تراجع تكلفة الإنتاج نتيجة انخفاض أسعار السلع الأولية ومن ثم انخفاض قيمتها السعرية، والثاني احتمال تراجع الطلب بالرغم من انخفاض الأسعار جراء تنامي البطالة في الاقتصادات الناشئة، وهذا سيوجد أوضاعا اقتصاديا حرجة للقطاع الصناعي في الاقتصادات المتطورة.