تحوّلان متناقضان يتشكلان في مصر هذه الأيام. من جهة، عملية «دسترة» محمودة في عُمقها وفي مؤدّاها، وقرار سلطوي بإعلان حركة الإخوان المسلمين منظمة محظورة، أعقبه إعلان آخر يضع الجمعيات المرتبطة بالحركة كحالة انتظام خارج القانون. إذا اعتبرنا «الدسترة» في غايتها تنظيماً للاختلافات والتداول على السلطة وتحديد نقطة التوازن الصحيحة بين الدولة والمجتمع وبين السلطة والمواطن وبين احتكار السلطة للقوة وبين الحقوق والحريات، فإن قرار الحظر المذكور هو خطوة سلطوية ضد «الدسترة» وهي الاحتكام إلى صلاحية اتخاذ الإجراء وفرض العقوبة وإعمالها ضد قوة سياسية كبيرة في مصر وعلى طول الوطن العربي. الإجراء لا يصبّ في الجهود المدنية لبناء دولة المواطنين المصرية الحديثة، استفادة من تجربة السياسة المصرية منذ الاستقلال. فهو لا ديموقراطي بامتياز أخذاً في الاعتبار أن قيادات «حركة الإخوان» في طورها الحالي تميل الى الانخراط في السياسة أكثر من أي وقت مضى. كما أنه يتناقض مع تضحيات الحراك الـشعـبي الذي أطـاح مبـارك ونـظامه سعـياً الى بناء دولة الحريات والحقوق وتعميم الديموقراطية وحفظ كرامة الإنسان. هذا لأن البناء الديموقراطي، وفق فرضيتنا، سيرورة من التجربة والخطأ إلى أن يستقيم النظام السياسي على ركائز متفق عليها. صحيح أن «الإخوان» في سنة محمد مرسي أساؤوا استخدام السلطة، بعدما أحسنوا استخدام الحراك الشعبي النازع إلى الدولة المعقولة. هم الذين انتظروا على الجدار واستظلّوا بالنظام واستفادوا من ضعفه ليتسلموا السلطة بعد إسقاط مبارك على طبق من فضّة. وبدل أن يلتقطوا إشارات الشعب المصري أو رسائل فئاته الوسطى ومطلب الإنسان الغلوبالي المصري، سعوا إلى الاستئثار بالحيز العام كأنه لهم وحدهم. فلم يكتفوا بزج كوادرهم حيث استطاعوا في القطاع العام، بل أسسوا دستوراً قاصراً عن اللحاق بالشعب ومطالبه، فصّلوه على مقاسات أيديولوجيتهم بدل أن يوسّعوه على مقاسات مصر وشعبها وتياراته الفكرية وانتماءاته، وآمال أهلها. خطأ «الإخوان» في مصر في سنة حكمهم لا يبرّر قمعهم الآن بحجة أعمال إرهابية بشعة تقع هنا وهناك في أنحاء مصر وآخرها في الدقهلية. ملابسات اتخاذ قرار الحظر تذكّرنا بأسلوب أنظمة قمعية أو أنظمة استئثارية سابقة، لا سيما في مصر. وهي الأنظمة التي لا تريدها غالبية المصريين كما اتضح في تظاهرات الـ25 مليوناً قبل أشهر. بل إن تجربة «الإخوان» مع السـياسة تجعلهم في عصاب دائم لجهة التطيّر من نـيـات الـجيـش أو الـنُـخـب غيـر الإسـلامـويـة... فمـا ان يحـققوا مكــسباً حتى يعكفوا على اقتسام الغنائم والسبايا، فلا يُضيفون إلى السياسة بل ينتقصون منها ومن احتمالاتها. لا يكون البناء الديموقراطي إلا بالتدرّب على أنماطه ومآلاته. لا يكون إلا باقتناع الشـركاء فيه بأنه يضمن لهم حقوقهم، أكـانـوا في الحكـم أم لـم يكـونـوا، وأنه يُـتيـح العودة إلى الحكم وتداوله... لأن الرأي السياسي - وفق الفكرة الديموقراطية - هو من الحريات، والانتظام هو من الحريات، والاعتقاد الديني هو من الحريات، فإن كل بناء ديموقراطي ينبغي أن يضمنها ويكرسها أساساً للسياسة والحاكمية. نقول هذا لأننا نُدرك ذاك التقاطع الواسع بين إسلامويين وبين علمانيين وليبراليين ويساريين في مصر، في خصوص مفهوم «الدولة المعقولة». نقول هذا مُشيرين إلى تحولات العمق في أوساط الإسلام السياسي على طول الوطن العربي وعرضه خلال العقود الأخيرة. فهناك ميل أكبر الى القبول بالسياسة بمفهومها غير الـشمـولي القائم على فرضية التعددية في المجتمع. وهذا واضح في الأدبيات والممارسات الصادرة عن قطاع واسع من حركاتهم ومنظّريهم. في مثل هذه الآلة، يكون الأجدر الفصل بين منظمات إرهابية بغطاء ديني سلفي أو جهادي أو قاعدي وبين حركة «الإخوان المسلمين» الراغبة، كما رأينا، في خوض اللعبة كما تطوّرت في مصر بعد مبارك. وهم يرون ما يحدث في تونس من تحولات في حركة «النهضة» (نزول حركة «النهضة» عن شجرتها العالية لأجل الدولة) أو في المغرب، أيضاً. إنها تحولات في عمق فكر الإسلام السياسي وممارساته. وهي تحولات، مهما كان تأويل مناهضي الإسلام السياسي لها، لا بدّ من أن تتماشى مع سعي الجماهير إلى البناء الديموقراطي بعد عقود من الاحتكار والاستئثار. ومن هنا أرجح أن حركة «الإخوان» في مصر، والتي لا أتفق مع أيديولوجيتها، جادة في التزامها بما يتطور من بناء الدولة المعقولة وعزوفها عن العنف. وكان الأفضل مواجهتها بالدستور الذي يُستكمل تطويره هذه الأيام والمنفتح عليها، لا بإجراء الحظر. وأملنا أن يُعاد عن هذا الخطأ بسرعة ومواصلة الحوار بإصرار أكبر على إعادة بناء نسيج المجتمع المصري وليس هتكه. نقول هذا وفي جعبة التجربة العربية عقود من الحظر التي لم تستطع أن تنفي وجود الإسلام السياسي. من هنا أهمية دمجه واندماجه في عملية بناء الدولة المصرية الحديثة كما يُريدها أبناؤها.