مقولة «هناك ثلاثة أنواع من الأكاذيب: الأكاذيب العادية، والأكاذيب البشعة، والإحصائيات» التي تنسب إلى كثيرين، أشهرهم السياسي البريطاني الداهية بنجامين دزرائيلي، والكاتب الأميركي اللماح مارك تواين، ما عادت دقيقة.. في ظل التقدم الكبير الذي طرأ على علم الإحصاء. وبناء عليه، بات مفيدًا أخذ المعطيات التي تخرج بها بعض الدراسات المسحية التي تجريها مؤسسات محترمة مهنيًا بشيء من الجدية. من الإحصائيات التي لفتتني أخيرًا، أرقام وتقديرات وردت في «تقرير حالة العالم في 2016» التي أعدها الدكتور جيديون روز، كبير محرري مجلة «فورين آفيرز»، وعرضها في «المنتدى الاستراتيجي العربي» الذي عقد في دبي بدولة الإمارات العربية المتحدة يوم 15 ديسمبر (كانون الأول) 2015. «التقرير» قدم جولة تقديرية بالأرقام، ونسب احتمالات الحدوث، تناولت مختلف المسائل العالمية والإقليمية على الأصعدة السياسية والأمنية والاقتصادية للعام المقبل. ومعلوم أن متغيرات كثيرة حدثت على المسرح الدولي خلال عام 2015، جزء كبير منها ارتبط بالخيارات السياسية للقيادات التي اعتدنا، كمراقبين، أن ننظر إليها كقوى مؤثرة وفاعلة.. أكثر منها كقوى متأثرة تقوم غالبية مواقفها على ردات الفعل. لكن الحقيقة هي أن حتى القوى الكبرى لا تمسك بكل الخيوط. وعليه، فهي مهما بلغت من قوة تجد نفسها أحيانًا مجبرة على التعايش مع ظروف لا تستسيغها ولا ترغب فيها. ثم إن الديمقراطيات الغربية تستند إلى المساءلة الشعبية الدورية والدائمة، وهذا يعني أن مفهوم «الزعامة» يختلف تمامًا هنا عنه في الدولة التسلطية؛ حيث يتصرف «الزعيم» أو «القيصر» أو «الولي الفقيه» كأنه فوق مستوى البشر والمؤسسات. ومن ثَم، إذا حانت من الواحد منا التفاتة إلى «عملاقي» حقبة «الحرب الباردة» التي انتهت، نظريًا، بانهيار الاتحاد السوفياتي السابق، لرأينا أننا بصدد معادلة جديدة. هذه المعادلة يحكمها انكفاء أميركي غريب من القوة المنتصرة في «الحرب»، وتمدد ثأري روسي تغذيه مرارة الهزيمة والرغبة في الانتقام ممن أذلوا كبرياء إمبراطورية ادعت طويلاً التزامها «الأممية»، إلا أنها لم تنسَ أبدًا إرثها القومي والديني والإمبريالي. الأرقام التي عرضها الدكتور روز، ببعديها الشرق أوسطي والدولي، عكسها واقع الانكفاء الأميركي والتمدد الروسي المدعوم تكتيكيًا من الصين وإيران. وكمثال على ذلك، رجحت الأرقام (بنسبة 70 في المائة) فوز المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون بالرئاسة الأميركية على الرغم من سياسة الانكفاء التي انتهجها باراك أوباما. كذلك رجحت الأرقام (بنسبة 65 في المائة) استمرار التوتر في العلاقات الأميركية الروسية، «ولكن من دون تصعيد ملموس»، واستمرار جمود الأزمة الأوكرانية (بنسبة 75 في المائة). وهذه المعطيات تعني عمليَا تعايش واشنطن مع حالة الثنائية القطبية المستجدة مع روسيا. ثم تتكامل صورة الانكفاء الأميركي أكثر مع ثلاث قرائن أخرى، هي: 1- استمرار الصين في مسارها السياسي الحالي من خلال فرضها هيمنتها في محيطها (الشرق الأقصى، وبخاصة منطقة بحر الصين الجنوبي)، لكن من دون إثارة حروب شاملة مع الدول المجاورة (70 في المائة). 2- استمرار سوريا والعراق واليمن وأوكرانيا وبحري الصين الجنوبي والشرقي مناطق صراع رئيسية في العالم (70 في المائة). 3- محاولة إيران الامتثال لشروط الاتفاق النووي (خطة العمل المشتركة الشاملة)، ولكن من دون انفتاح على العالم (75 في المائة). المعنى المستنتج من القرائن الثلاث أن أقصى ما تفعله واشنطن اليوم في بعض بؤر التوتر ومناطق الصراع هو «الردع»، مع أنها تميل أكثر إلى «التبريد»، بعدما فقدت زمام المبادرة في أكثر من مكان. في الاتجاه نفسه، قدم الدكتور غسان سلامة، الأكاديمي والوزير اللبناني السابق، والموفد الأممي السابق إلى العراق، تلخيصًا بليغًا وتوقعات مفيدة، لكنها قليلة التفاؤل، إزاء المنطقة العربية والبيئة المحيطة بها. ولذا استقبل بعض المستمعين كلامه بشيء من التحفظ. وورد في توقعات سلامة قوله إن الأشهر الـ12 المقبلة تعدنا بأربعة أمور، هي: الانتصارات الممنوعة، والنزاعات المجمدة، والتسويات المزعجة، والأزمات المستجدة. سلامة، الذي عاش الأزمة اللبنانية واستوعبها بكل تعقيداتها الداخلية والخارجية، مؤهل أكثر من غيره من الوسطاء الدوليين - على شاكلة ستافان دي ميستورا - لفهم جذور الأزمتين في العراق وسوريا وتشابك التعقيدات الداخلية مع المؤثرات الإقليمية والدولية والدينية. والشيء نفسه يقال عن أكاديمي وباحث منهجي وموضوعي - ووزير سابق مثله - هو الدكتور طارق متري، الذي تولى دورًا أمميًا مماثلاً في ليبيا. وحقًا، أوجز سلامة وأصاب عمومًا فيما قاله، أقله خلال الحقبة الزمنية المتبقية من فترة مكوث باراك أوباما في البيت الأبيض، وفي ضوء الوجود الروسي العسكري في المشرق العربي، والتحالف التكتيكي الحالي بين موسكو وطهران في سوريا. «المنتدى الاستراتيجي العربي» انعقد في منطقة تزداد فيها يومًا بعد يوم علامات الاستفهام، وربما، التعجب أيضًا. ولعل اللقاءات الجانبية والحوارات الثنائية كانت أصدق تعبير عن الهواجس من الكلام العائم الذي لا يسمن ولا يغني من جوع. ومنه كلام صدر عن مسؤولين وباحثين وخبراء دوليين، حاليين وسابقين، لم يفتقر إلى الموضوعية فحسب، بل إلى الصدق أيضًا. وما تبادر إلى ذهني عندما كنت أصغي إلى بعض المشاركين هو أنهم ما زالوا يرفضون الاقتناع بأن الجمهور الذي يصغي إليهم تجاوز مرحلة الانبهار الساذج بما كان يرمي إليه من عبارات المجاملة، وتعلم على التشكيك، وبات راغبًا في المصارحة حتى ولو كان يتهيّبها. ومن ثَم، فعبارات «التخدير والطمأنة» في الموضوع الإيراني (بشقيه النووي، والتوسعي - المذهبي) قد تمر اليوم مرور الكرام في أي مكان من العالم.. ولكن ليس في منطقة الخليج وشبه الجزيرة العربية. لقد راهنت واشنطن طويلاً على تمرير صفقة الملف النووي. وسواء اعترفت أم لم تعترف، لم تفعل فعلها بعد عبارات الطمأنة المتكررة التي نطق بها الرئيس أوباما ووزير خارجيته جون كيري، وكبار مسؤولي إدارته ودبلوماسييه، وكذلك حلفاء واشنطن في أوروبا الغربية. السبب، بكل بساطة، أن قادة الخليج يرون الفعل الإيراني.. والفعل دائمًا أقوى من الكلام!