غادر الشاب الهندي شيفدات سينغ قريته الصغيرة التي تعيش على زراعة القمح الصيف الماضي، ومعه حلم كبير بأن يصبح أول طبيب في العائلة. وقطع أكثر من 300 ميل تفصل قريته كولاري عن مدينة كوتا المزدحمة، حيث يتوافد الطلاب من مختلف أنحاء الهند للخضوع لاختبارات قبول شديدة المنافسة قبل الالتحاق بكليات الهندسة والطب. وخلال العام الماضي تدفق أكثر من 160 ألف طالب من مختلف أنحاء الهند على كليات مدينة كوتا، مما يعزز من سمعة المدينة كعاصمة البلاد في مجال الاستعدادات للامتحانات. غير أن جدول الاستذكار المرهق، والاختبارات المتواصلة والشد العصبي طول الوقت، أخذ منحى خطيرا، أدى إلى انتحار أكثر من 70 طالبا في مدينة كوتا خلال السنوات الخمس الماضية، منهم 29 حالة العام الماضي فقط، وهو معدل يفوق بكثير المعدل العام في الهند. وتراوحت طرق الانتحار ما بين الشنق، والحرق والقفز من المباني. ومنذ أسبوعين فقط، انضم سينغ لقائمة المنتحرين، بعد أن قضى ست ساعات دون توقف في استذكار دروسه داخل غرفة نومه، وبعد ذلك ترك رسالة يقول فيها: «أنا المسؤول عن انتحاري.. لن أستطيع تحقيق حلم أبي». ولمعرفة أسباب هذه الظاهرة المرضية، أفاد تربويون بأنهم لا يعرفون سببا معينا لارتفاع معدلات الانتحار، غير أنهم اعترفوا بزيادة الضغط العصبي على الطلاب. فوفق مدين لال أغروال، وهو طبيب نفسي بمدينة كوتا أدار خطا ساخنا على مدار ثلاثة سنوات لمساعدة الطلاب، فإن «الطلاب يخضعون هنا لضغط عصبي متواصل لدرجة جعلتهم عاجزين عن الاستذكار والتركيز، والتذكر، والنوم، وحتى الأكل، ولذلك يشكو الطلاب دوما من الصداع وعدم القدرة على التنفس بشكل طبيعي، ويبكي الكثيرون منهم أمامي»، مضيفا أن بعض «الطلاب يشعرون بالذنب لأن آباءهم أنفقوا الكثير من المال وعلقوا عليهم آمالا كبيرة». وقد قال أحد الطلاب المنتحرين العام الماضي في قصاصة تركها في غرفته: «أبي، أنا أكره الرياضيات»، في حين قال منتحر آخر: «أنا ابن فشل في تحقيق أي شيء». وبعد تكاثر هذه الأحداث أمر المسؤولون في المدارس بتعيين أخصائيين نفسيين، وتخصيص بعض الأيام «للترويح» عن الطلاب داخل الفصول الدراسية، والإسراع في رد مصاريف الدراسة للطلاب الذين ينصرفون عن التعليم. وفي هذا الصدد قال سواي سينغ غودارا، وهو مراقب شرطة: «لقد طالبنا المدارس أيضا بإجراء اختبارات للطلاب لتحديد قدرتهم على تحصيل درجات في مدينة كوتا»، مشيرا إلى أن الشرطة طالبت المدارس بعدم إرسال نتائج الامتحانات التي تعقد كل شهرين للآباء عن طريق الرسائل النصية «لأن من شأن ذلك أن يبقي الطلاب على المحك طوال الوقت، ويجعل الآباء يوبخونهم». وبسبب الطموحات المتزايدة للطبقة المتوسطة، وتطلعات الآباء غير الواقعية بشأن مستقبل أبنائهم، وطرق التدريس المتواضعة في المدارس، والتنافس المحموم للالتحاق بالكليات، نشأت صناعة لإعداد الطلاب لتلك الاختبارات بلغ قوامها 400 مليون دولار أميركي. ومنذ 20 عاما، لم يكن بالمدينة سوى عدد محدود من مدرسي مادتي الرياضيات والعلوم. غير أن الحال تغير الآن بعد أن افتتح العديد من المدرسين مدارس خاصة في كوتا، وأصبح الالتحاق بها أحد المتطلبات الأساسية لكل من يسعى للقبول في كليات القمة في الهند. ويعتبر التخرج في إحدى كليات التكنولوجيا، التي تمثل حلبة للمنافسة في صناعة التكنولوجيا في الهند، بمثابة تأشيرة العبور لمستوى اجتماعي أفضل بعد الحصول على وظيفة في إحدى الشركات الكبرى، سواء داخل الهند أو في وادي السليكون بالولايات المتحدة. ويعتبر ساندر بيكاي، المدير التنفيذي لموقع «غوغل»، أحد أشهر خريجي كليات التكنولوجيا في الهند. وقد شجعت صناعة الإعداد للاختبارات الكثير من العائلات المتواضعة في المدن والقرى الصغيرة على التطلع لإلحاق أبنائها بكليات القمة التي كانت حتى عقد مضى حكرا على أبناء الصفوة في المدن الكبيرة. وخلال العامين الماضيين، استطاع أبناء الحمالين في محطات القطار وسائقي الشاحنات الدراسة في كوتا، ونجحوا في اختبارات القبول، والتحقوا بالفعل بكليات القمة؛ مثل الهندسة والطب. وحسب وصف صحيفة «تايمز أوف إنديا» في عدد الأحد الأخير، فإن «القصة في كوتا هي باختصار إما أن تتفوق أو ترجع للخلف». في مدينة كوتا، وعلى امتداد الأفق، تستطيع أن ترى لوحات الإعلانات تحمل صور طلاب ممن تفوقوا في اختبارات القبول، بدلا من الصور المعتادة للعارضات ونجوم بوليوود. وأصبح أفضل المدرسين أنصاف مشاهير. كما يعلق الطلاب لوحات على جدران غرفهم يدونون عليها هدف حياتهم كي يبقى دائما أمام ناظريهم، بيد أنهم محرومون من مشاهدة التلفاز، واستخدام الإنترنت والـ«فيسبوك». وحتى جدران أكبر معبد هندوسي بالمدينة امتلأت بدعوات طلاب أتوا يتضرعون عسى أن تتحقق أمنيتهم في القبول في الكلية التي طالما حملوا بها. وحسب نيتيش شارما، مسؤول بمعهد آلان كاريير، فقد أصدرت السلطات المحلية الأسبوع الماضي تعليمات بتخصيص «يوم للترويح» بهدف مساعدة الطلاب على التخلص من عناء الاستذكار، وقام المدرسون والطلاب بالغناء وأداء تمرينات للتنفس وممارسة العلاج بالضحك. بيد أن بعض الطلاب عزفوا عن المشاركة في فعاليات اليوم، حيث قال أحدهم ويدعى أوغاس تاكور (16 عاما) إن «هذا اليوم مضيعة للوقت. أثمن مقتنياتي هي ساعتي لأنها تذكرني بأن الوقت المهدر لن يعود، فأنا أتجنب دوما الأصدقاء الذين يذهبون للأسواق التجارية ودور السينما، أو الذين يوجدون على (واتساب)». ويعتبر نظام تعديل المجموعات أهم أسباب الضغط العصبي، فإذا حصل الطالب على درجات منخفضة في الاختبارات التي تجرى كل شهرين، يُنقل الطالب لمجموعة دراسية أدنى حصل طلابها على درجات منخفضة، ويدير تلك المجموعات مدرسون متوسطو المستوى، حيث يذهب أفضل المدرسين للمجموعات المتفوقة.