أكد خبراء وسياسيون أن أزمة دولة جنوب السودان عكست استمرار سياسة التهميش والإقصاء التي عانى منها الجنوب أبان وجوده في السودان الموحد، محذرين من استمرار الأزمة، حيت تشير مآلات استمرارها إلى إعادة إنتاج نموذج صراع قادة القبائل في إفريقيا وربما تتحول الجنوب إلى صومال جديد، مؤكدين أن أكثر الإطراف الإقليمية التي من المرجح أن تتأثر بالأزمة السودان الشمال، حيث سيكون مقصدا للمشردين والنازحين علاوة على خسارته عائدات النفط، وأشاروا إلى أن الولايات المتحدة تمارس كل الضغوط لاحتواء الأزمة حتى لا يضيع جهدها في انفصال جنوب السودان. وقال الخبير الاستراتيجي بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية صلاح خليل أن جوبا عاصمة جنوب السودان شهدت في 15 من ديسمبر 2013، معارك حامية داخل وحدة الحرس الجمهوري، بين كل من عساكر تابعين لقبيلة النوير التي حاولت الاستيلاء على الوحدة الرئيسية التي يعتمد عليها الرئيس سلفا كير في التأمين وحراسة القصر الرئاسي ومقر إقامته، ومجموعة الحرس الجمهوري من قبيلة الدينكا، ولقي قائد الحرس الجمهوري مريال تينور مصرعه في الاشتباكات التي دارت، بالإضافة إلى مقتل (800) شخص أغلبهم من الحرس الجمهوري، مضيفا أن نشوب الأزمة الحالية يعود عندما تحركت قوة خاصة تسمى (التايغر) تتبع للحرس الجمهوري مدججة بالسلاح لاعتقال عدد من كبار الضباط بالحرس الجمهوري، تفجرت الأوضاع داخل الخرس الجمهورى، وأرجع الخبراء تجدد الصراع الجاري في جنوب السودان لأسباب سياسية وأخري قبلية، بين كل من قبيلة الدينكاو النوير، بين كل من القبيلتين صراعا شرسا، منذ مئات السنين خلف الآلاف من القتلى والجرحى بين الطرفين، ربما يكون الصراع قد بدأ سياسيا بين قيادات الحركة الشعبية التي تم إقصائهما من التشكيل الوزاري الذي أجراه الرئيس سلفاكير في يوليو 2013، وأنه بعد التغيير الذي أجراه الرئيس كير أصبح الصراع يطفو على السطح، واخذ طابعه صراع الزعامة على السلطة والثروة، مما جعل كل طرف من الجانبين يسعى لإظهار عناصر القوة القبيلة لإقصاء الآخر، بالإضافة إلى وجود حالة من السخط داخل قيادات الحركة الشعبية ضد الرئيس سلفاكير ورفض الطريقة التي ينتهجها في سياسته، خاصة بعد إعادة دمج العناصر المسلحة التي كان يقودها بيتر قاديت في الجيش الشعبي، كما ترى بعض القيادات بالحركة الشعبية أن الرئيس كير غابت عنه خطة الحكم والبرنامج بالنسبة للحركة الشعبية بعد تقرير المصير، وأن هذا الغياب أحبط شعب الجنوب، إضافة إلى غياب الرؤية سواء في الخدمات الصحية والتعليمية والبنيات التحتية، كما أن النظام السياسي القائم في جنوب السودان، فشل في إدارة التنوع الثقافي والعرقى، وجعل من ذلك مصدرا للهيمنة بدلا من مصدر للثراء الاجتماعي والثقافي والسياسي، وهذا أضعف الدولة الوليدة، وجعلها تدخل مبكرا في مرحلة الحرب الأهلية التي بدأت مراحلها الأولى منذ يوليو 2013، عندما تم إعفاء بعض قيادات الصف الأول داخل الحركة الشعبية، حيث أعفى «كير» منافسيه في الحركة الشعبية من مناصبهم السياسية فسرعان ما تم تفسير ذلك بأنه تهميش قبلي متعمد من جانب قبيلة الدينكا التي تدعم مواقفها بالأغلبية القبلية دون استيعاب الأوزان القبلية بين جميع القبائل، خاصة الشلك والنوير المنافسين التقليديين لقبيلة الدينكا في جنوب السودان، وقال الخبراء: إن الصراع الماثل حاليا يعد نتيجة مباشرة «لانقلاب» الرئيس سلفاكير على قدامى المحاربين في الجيش الشعبي من أمثال ريك مشار، فاقان أموم، دينق الور، لوكا بيونق، تعبان دينق وغيرهم. «ضغوط قبلية» وحول مخاطر تحول صراع النخبة إلى حرب أهلية، قال «خليل» أن الصراع الحالي في جنوب السودان بدأت ملامحه تتشكل تحديدا في شهر فبراير من العام الحالي 2013، عندما أعلن رياك مشار نائب سلفا كير نيته في الترشح لرئاسة الحركة الشعبية في الانتخابات القادمة ضد الرئيس في 2015 وجاء إعلان «مشار» بعد أنباء تسربت من داخل الحجر المغلقة مفادها، الرئيس سلفاكير يطمع في إزاحة خصومه من النخب الأكاديمية في الحركة الشعبية من الحكومة، لكثرة الانتقادات التي أصبحت تمارس علنا من قبلهم، ولكن الخطأ القاتل الذي ارتكبه سلفاكير وقتئذ هو استجابته للتحريض من قبل المقربين منه، ضد نائبه «مشار» عقب إعلانه الترشح لرئاسة الجمهورية فظن أن إعفاء الرجل من منصب النائب الأول سيخلصه منه إلى الأبد، كما أن إعفاء مشار سبقه إعفاء جنرالات في الجيش الشعبي يتبعون لقبيلة النوير، على رأسهم تعبان دينق حاكم ولاية الوحدة الغنية بالنفط، وقصد الرئيس سلفاكير ضرب قبيلة النوير وتحجيمها لدورها وطموحها وسعيها لقيادة جنوب السودان، كما قام بعملية استبدال وإحلال لقيادات النوير بقيادات مواليه له، فتم تغيير وحدات من الجيش الشعبي، بوحدات أخرى مواليه له داخل الحرس الجمهوري تسمى (التايغر) وهي وحدات تقوم بتنفيذ مهام خاصة وتتبع في إدارتها للرئيس سلفاكير ووزير دفاعه كوال منيانق. «شروط تعجيزية للنوير» وحول فرص نجاح الوساطة الإفريقية والدولية، قال «خليل»: إن فريق الوسطاء المكون من الاتحاد الإفريقي ولجنة حكماء إفريقيا يبذل الكثير من الجهد لإجراء محادثات في إثيوبيا وهذه تعد أول مبادرة هامة لإحلال السلام منذ اندلاع الاشتباكات، فيما تدخل قبيلة النوير الصراع الحالي في جنوب السودان لممارسة ضغوط قوية على حكومة الرئيس سلفاكير من أجل الوصول لحلول توافقية بين الفرقاء في الجولات المفاوضات التي من المتوقع أن تستضيفها أديس أبابا في الأيام المقبلة، مشيرا إلى أن قبيلة النوير تطالب بعدة شروط للدخول في المفاوضات منها، أن يكون لها مخصصات من عائدات النفط المنتج في ولاية والوحدة التي تنتج 95% من بترول الجنوب، بالإضافة إلى تزويدهم بالتفاصيل الكاملة حول تصدير للنفط من ولايتهم، وبذلك تكون عملية الاتفاق في المفاوضات القادمة صعبة وربما تكون قد انتهت قبل البدء وتفتح الباب لاستمرار الصراع والبقاء للأقوى، كما أن الشروط التي طالبت بها قبيلة النوير في الصراع الحالي في جنوب السودان، تفتح ملفا جديدا في الصراعات القبلية في إفريقيا، وهو أن القبائل التي تقاتل الحكومات والحركات التي تحمل السلاح سوف تضع ملف إدارة الثروة شرطا أساسيا في إبرامه أي اتفاق مع أى حكومة داخل القارة الإفريقية. «كاريزما مشار» وعن تأثير الطموح الشخصي لرمز قبيلة النوير رياك مشار في الأزمة، قال «خليل»: إن الضغوط التي تمارسها قبيلة النوير تعكس بشكل أو آخر تفرض الاجابة عن هذا السؤال: هل رئاسة الحركة الشعبية والحكومة المركزية في جوبا بالنسبة لمشار نابعة عن طموحات سياسية.. أما قبيلة؟، وأعتقد أن الفرضية الأولى أن قبيلة النوير هي ثاني أكبر القبائل بعد الدينكا في جنوب السودان والتنافس بين القبيلتين على أشده، كما أن بعض أبناء القبيلة يعتبرون من كبار جنرالات الجيش الشعبي وبالتالي قد لا يعاب على القبيلة أن ترمى بثقلها وراء «مشار» بأمل أن يحقق لها حلم قيادة جنوب السودان، أما الفرضية الثانية، فتتمثل في طموح «مشار» السياسي في قيادة جنوب السودان، خاصة أن مشار يرى نفسه مؤهلا من كل النواحي، حيث يمتلك الخلفية العسكرية ولديه كاريزما القيادة، ويستند على مؤهلات أكاديمية رفيعة تزيد من فرصه في تولى الحكم وتحقيق حلم شعب قبيلة النوير في جنوب السودان. «الحوار السلمي المخرج الوحيد» وعن المخرج لتجاوز الأزمة، قال «خليل»: الموضوع كبير ويحتاج لتنازلات كبيرة من قادة كبار على مستوى النخب السياسية والعسكرية، والمخرج الوحيد من هذه الأزمة في جنوب السودان، يكمن في إتاحة مزيد من الحوار السلمي السياسي بين القبائل المتصارعة. من ناحيته، قال مدير مركز الدراسات الاستراتيجية وإدارة الأزمات الدكتور سعد الزنط: إن محاولة الانقلاب التي شهدنها دولة جنوب السودان بعد أقل من عامين من استقلالها كشفت أن الأوضاع في دولة الجنوب بعد الاستقلال ليست بأفضل حال من أوضاع ما قبل الانفصال وأن ما ثار عليه أبناء الجنوب ضد حكومة الخرطوم مازال مستمرا، خاصة ما يتعلق بالإقصاء والتهميش الذي عانوا منه طويلا وثاروا من أجله وقدموا آلاف القتلى في معركة الاستقلال، وأن الأوضاع تشير إلى أن حكومة الرئيس سلفا كير ميارديت تمارس نفس سياسة التهميش والإقصاء ضد رفقاء السلاح ممثلة في نائب الرئيس رياك مشار وباقان اموم. وعن تداعيات القتال الدائر في دولة جنوب السودان، قال «الزنط»: إن الأوضاع مرشحة للمزيد من القتل والتوتر رغم مساعي الوساطة التي تبذلها أطراف خارجية من دول الجوار لدول جنوب السودان، وخاصة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية والأمم المتحدة، ولا سميا أن الولايات المتحدة سوف تبذل المزيد من الجهد والضغط في أن واحد على أطراف الصراع لاحتواء الأزمة والاستمرار في دولة الجنوب المستقرة والتي تسعى الولايات المتحدة أن تستثمر وجودها بعد الجهد الكبير الذي بذلته من أجل انفصال الجنوب وإقامة الدولة المستقلة في الجنوب، مشيرا إلى أن تركيبة جنوب السودان التي تسيطر عليها القبلية وغياب المؤسسات بحكم كونها دولة حديثة الاستقلال أمور لا يمكن تجاهلها تشير إلى احتمال انفجار الوضع برمته في أي لحظة، علاوة على توفر السلاح في أيدي الكثيرين من خارج أجهزة الأمن والجيش والذى يشجع على ارتكاب العنف ضد القبائل الأخرى لتصفية الحسابات وضد مؤسسات الدولة في حال تصادم المصالح. وقال «الزنط»: إن ما حدث كان متوقعا وحتى لو تم احتواؤه فأنه قابل للتكرار مرة أخرى وفى أي وقت ومع أي خلافات سياسية، مؤكدا أن الانقلاب أحدث تصدعا في بنية حزب الحركة الشعبية الحاكم وسوف يترك مرارات لدى من فقدوا مناصبهم، والمرجح أنهم يعيشون حالة الإحباط بسبب نضالهم في المراحل السابقة ويجرى إقصاؤهم دون اعتبار لتاريخ تلك القيادات ودورهم حتى تحقق الاستقلال. «مياه النيل خارج الأزمة» وحول تأثير الانقلاب على مياه النيل، قال «الزنط»: إن مياه النيل لن تتأثر بالصراع الدائر في الجنوب، وأن أطراف الانقلاب ربما يقودون دولة جنوب السودان إلى مرحلة من التمزق والمزيد من الانشقاقات وربما يعيدون استنساخ تجارب صراع الزعامات القبلية في الصومال وأن عدم احتواء الانقلاب وإزالة مسبباته ربما يدفع دولة جنوب السودان إلى «الصوملة». وعن تداعيات الانقلاب خارج حدود دولة الجنوب، قال «الزنط»: إن أخطر التداعيات في تقديري سيكون من نصيب دولة السودان الشمالية ولا سميا في حال توسيع دائرة الصراع وسوف ينعكس سلبيا ذلك على تصدير نفط الجنوب عبرها، حيث إن رسوم عبور نفط الجنوب تمثل رقما مهما في موازنة دولة الشمال، علاوة على تداعيات الصراع الذي سوف ينتج عنه آلاف المشردين واللاجئين وأن دولة السودان الشمالي ستكون محور هذه التدفقات البشرية وبكل ما تمثله من إرهاق على ميزانيتها المرهقة من الأصل. المزيد من الصور :