في تاريخ النهضة الغربية كان المثقفون من مختلف المجالات هم قادة مسيرة التغيير. ويبدو ذلك جلياً بارتباط الانتقالات الفكرية الحضارية الغربية بأسماء المفكرين والفلاسفة، بدءاً من فولتير، وإيمانويل كانت، في عصر التنوير في القرن الثامن عشر، وانتهاء بجاك دريدا وميشيل فوكو وفرانسوا ليتوار، في عصر ما بعد الحداثة الحالي. ولا يمكن،حسب التفسير الغربي، فصل نتائج أفكار هؤلاء المفكرين عن تطور الاتجاهات الغربية الثقافية والسياسية والاقتصادية. وإذا كانت وظيفة المثقف في الغرب تقوم على تفكيك مكونات الواقع وتحويل البنية النقدية للواقع إلى جسور للمستقبل، فإن ذلك الفهم يقودنا إلى السؤال عن وظيفة المثقف، حالياً، في الوطن العربي الذي يعيش مرحلة انحدار خطرة. وإذا تجاوزنا مسألة الهوة الكبيرة التي تفصل بين أطروحات مفكري مرحلة النهضة العربية، أمثال الكواكبي ومحمد عبده وغيرهما، عما وصل إليه الوضع العربي، فإننا نعيش حالياً أزمة مثقفين حقيقية تتمثل في فراغ الساحة الثقافية من المشاريع الفكرية النهضوية التي تجابه المشاريع الفكرية الغربية المستوردة، التي بإمكانها إشعال فوانيس تنير طريق خروج الوطن العربي من أزماته وتسير به نحو المستقبل. في حواراتي مع العديد من المثقفين العرب أفاجأ بأن بعضهم بدؤوا (يتصالحون مع الواقع)، وأنهم صاروا يبررون حالة الأزمة الموجودة، وأن منطقهم يقول إنه لا حل لما يحدث، لأنه لا يمكن مواجهة أسباب الأزمات ولا الوقوف في وجه صانعيها. وحين يطرح أحدهم فرضيات بديلة يجابه بأنه حالم وغير واقعي. متناسين أن أعظم الاختراعات البشرية كانت أحلاماً، وأن نصف ما تحقق اليوم على أرض الواقع كان ضرباً من الخيال. وأخطر أزمات المثقف العربي اليوم أنه بدأ يتخلى عن امتلاك الأفكار النوعية، وأن القناعة غير الإيجابية والرضا غير الصحي بما هو متاح صارا سمة مقلقة في الحوارات الثقافية. ثمة روح استسلام، وشيء من الانهزامية وصل لأرواح من ينبغي بهم أن يكونوا ثائرين، أو منظرين للثوار. ولا أدلّ على ذلك من أن ما سمي ب(الربيع العربي) انطلق من دون فلسفة تقوده، ومن دون حركة مفكرين ينظرون له ويقوّمون ما يعوج منه. لذلك كان حراكاً انفعالياً انتهى بالفوضى. يقول إدوارد سعيد في كتابه صور المثقف، إن المثقف إنسان يراهن بكينونته كلها على حس نقدي، على الإحساس بأنه على غير استعداد للقبول بالصيغ السهلة، أو الأفكار المبتذلة الجاهزة، أو التأكيدات المتملقة والدائمة المجاملة لما يريد الأقوياء والتقليديون قوله، ولما يفعلون،..، وأن يرى في المهنة الفكرية حفاظاً على حالة اليقظة المتواصلة ومن الرغبة الدائمة في عدم السماح لأنصاف الحقائق والأفكار التقليدية بأن تُسير المرء معها. وقد يبدو رأي سعيد صعب التمثل في ظل التضييق على الحريات الفكرية التي تتزامن مع الوضع الأمني المقلق في الوطن العربي، وفي ظل قدرة وسائل التواصل الحديثة على التأثير والهيمنة الثقافية. ولكن ثمة سقف يجب ألا يتنازل عنه المثقفون، استناداً إلى كلام سعيد، وهو التمسك بالحس النقدي وعدم القبول بأن تسيرنا أنصاف الحقائق والأفكار التقليدية. وليست وظيفة المثقف أن يحارب الأزمات ويتصادم مع السلطات وأن يغير الواقع. وظيفة المثقف أن يختلف مع الواقع فكرياً، وأن يطرح الأفكار البديلة. وظيفته أن يكون طموحاً حالماً ينظر للأمور من قمة شاهقة لا من أسفل السفح. entesaralbana@gmail.com