×
محافظة المنطقة الشرقية

جوجل تحتفل بمخترع التلفاز

صورة الخبر

في زمن الإنترنت، يستمر الروائي اللبناني حسن داود في الكتابة على ورق، وبقلم حمل حبره أحلامه.. أوجاعه وأفراحه. ماضيه وحاضره ومستقبله. لا تزعجه تحديات وسائل التواصل الحديثة، وقد تحولت إلى هوس الصغار والمراهقين والشباب وكبار السن، بل تدعوه إلى مواجهة وجودية ووجدانية للاستمرار والإبداع. نجح حسن داود في التحدي. حصد جوائز قراء لم يخذلوه يوماً، وجوائز نقاد لطالما وجدوا في رواياته مادة سخية للمقاربة، مدحاً أم هجاء، وجوائز من مؤسسات علمية وثقافية، محلية وعربية ودولية، كان آخرها، جائزة نجيب محفوظ للرواية العربية عن رواية لا طريق إلى الجنة تمنحها سنوياً الجامعة الأمريكية في القاهرة، بإشراف لجنة تضمّ نقاداً عرباً وأجانب، تضاف إلى جوائز كثيرة أخرى، أهمها جائزة المتوسط التي تمنحها إيطاليا عن رواية 180 غروباً(2009)، وجائزة المنتدى الثقافي اللبناني في باريس عن رواية غناء البطريق كأفضل كتاب (1998)، وكلها تؤكد أن صاحبها لا يمل من الكتابة والتأليف والشغف الروائي في ولادات مرصودة على الفرادة والإبداع والاستثناء، وهنا حوار معه: } ليس من إبداع يولد من عدم. لا ينفي أن روايتك تدربت وتمثلت بمن سبقوك من روائيين كبار ومدارس روائية قديمة وحديثة. إلى أي مدى تقاربت مع هؤلاء، وما نتج عن هذا التقارب؟ عبرت المدارس على أنواعها وأشكالها، ولم تخترقني أي منها. آخر مدرسة أدبية فيما خصّ الرواية تحديداً، كانت مجموعة الرواية الجديدة في فرنسا التي نظّر لها آلان غرييه وجان ريكاردو. أعجبني كتاب هذا الأخير النقدي النظرية الجديدة، لكن ذلك لم يكن أكثر من سمة إضافية تضاف إلى تعلقي بأعمال روائية كثيرة تنتمي إلى حقب مختلفة من تاريخ هذا الفن. أظن أننا لم نعد في عصر المدارس الأدبية، أو ربما لست في عمر الانتساب إلى إحدى هذه المدارس. في حسباني أن كل ما قرأنا وأعجبتنا قراءته له أثّر فينا. لا يتعلق ذلك بقراءة الروايات وحسب، بل أيضاً قراءة الشعر ومشاهدة الأفلام السينمائية والتأثر بها. أضف إلى ذلك ما يمكن اعتباره تغذية الحاسة الدرامية في أنفسنا.. وهذا عند الكاتب، ما ينبغي تطويره دائماً والذهاب به إلى أعمق. في هذا المجال، دائماً أتذكر ابتعاد الروائيين الأمريكيين عن تصنيف أنفسهم في مدارس. عندهم نجد الرواية تتبع كاتبها. أقصد فكرته الخاصة ومزاجه الشخصي ونظرته المتفردة إلى الحياة. وفيما خصنّي، ربما كنت في وقت ما، أو عمر ما، أميل إلى كتاب، أو إلى تيارات كتابية أدهشتني فانتسبت إليها. لكن مع مرور الوقت والتجربة، صرت معلّم نفسي، محاذراً على الدوام من تكرار ما سبق أن كتبته. } أن يصبح الروائي معلّم ذاته، يعني أن تحمل أعماله سمات خاصة، مميزة ومتفردة.. أو أن تحمل سمات كاتبها. هل حملت أعمالك هذا الهم، وإلى أي مدى خدمتك أحداثها وشخصياتها فيما سعيت إليه؟ غني عن القول إن الروائي لا يعين رتبة الرواية قبل الشروع بكتابتها. إنه ومنذ الجملة الأولى، يدرك أنه مقبل على شيء لا يملك مسبقاً تحديد وجهته، طبعاً هي عملية تأليفية ونقدية معاً. أنت حين تكتب، يكون إلى جانبك ناقدك القاسي الذي يقف عند كل كلمة، ويطرأ عليك احتمالات كثيرة عليك أن تختار بينها. بهذا المفهوم، لا أستطيع أن أفاضل بين رواية لي وأخرى، كأن أقول إنني بذلت جهداً في هذه الرواية يفوق ما بذلته في الأخرى. في الرواية خصوصاً والكتابة عموماً، عليك ألا ترضى بأقل من الحد الأقصى، أي تنازل، أو أي غض نظر، يسبب التعب غالباً، وقد يوقفك عن الاستمرار في الكتابة. أما لجهة ترتيب الروايات حسب الأهمية أو السلاسة أو القيمة الأدبية، فهذا ما أسمعه من الأصدقاء الذين مثلاً يقفون عند رواية ما، ويكونون أقل اكتراثاً برواية أخرى. } أبجدية الرواية أحداث وشخصيات، تجمع بين الواقع والخيال. كيف تولّد شخصيات الرواية وما يعتريها من أحداث درامية تراجيدية وكوميدية معاً؟ لا أعتقد أننا بتنا الآن قادرين على الفصل بين ما هو واقعي وما هو خيالي في نظرتنا إلى حياة البشر ومصائرهم. لقد تكون وعينا انطلاقاً من هذا الخليط، الذي لم يكن على شاكلته الراهنة، لولا القراءات الكثيرة التي اقترحت علينا كيف ينبغي أن ننفعل، وعلى أي نسق عاطفي ينبغي أن نرد الحياة الواقعية. أذكر ناقداً كتب مرة أن الحزن الذي ينتابنا في حياتنا اليومية، ربما كان أدبياً، أي مأخوذ من الأدب في أساسه. أحياناً أقول بيني وبين نفسي إنني تعلمت الغرام تعلّماً من الأفلام العربية. وحتى الآن، أشعر بتلك النشوة العاقلة التي تأتي للممثل العربي حين يضع يده فوق يد من يعشقها. كذلك أرى أن لا وجود لمشاعر بدائية في أصلها، إذ كل شيء يصل إلينا ويصنع ذائقتنا من الخارج. } في كثير من رواياتك، تكشف أو تتكشف مراهقتك في هذه الشخصية أو تلك. تستذكر العواطف البكر وما آلت إليه فتأتي حروفك لتحفر المطبات كما يقال. كيف تفسر ذلك؟ لا أعرف إلاّ حين أُقارن نفسي الآن بما كنته في أيام المراهقة. لا شك أن هناك أشياء باقية، وإلاّ لم أكن أنا أنا.. إنما في أوقات أخرى، أجدني اختلفت، أو نسيت كيف كان يفكّر هذا الشاب الواقف في الصورة ناظراً إلى شيء قريب منه. أتمنى أن أعرف كيف كانت مشاعري آنذاك، وكيف كانت ردود أفعالي. مثلاً، فيما يتعلق بالشعر الذي نشأت متعلقاً به، حافظاً عن غيب الكثير من أبياته وقصائده، أجد أن ذائقتي تبدلت تماماً عما كانته آنذاك. هناك قصائد حفظتها لشدة إعجابي وتعلقي بها. أقول عن نفسي إنني كنت سخيفاً آنذاك، حين بذلت ذلك الجهد لحفظها. اختصار القول: إننا نتغير. مرة وفي مقابلة مع الناقد والمثقف انطوان مقدسي، ذكر جملة عابرة تفيد حتى الآن أننا لا نفهم الشعر الجاهلي. بقيت أفكر في العبارة سنوات، وفي مقصدها. ذلك أننا نظن أنفسنا، ربما كنا أكثر قابلية لفهم هذا الشعر من الجاهليين أنفسهم. لكن ما قصده المقدسي، هو التأثر والانطراب. أي أننا اليوم لا نعرف كيف كان ينتشي امرؤ القيس بالإيقاع الذي يولد التقاء الكلمات ببعضها بعضا. دليلي على ذلك، أنني لا أفهم لماذا كان أبي يصغي إلى هذا الحد، مطلقاً آهات إعجاب مبالغة للزجالين، فيما هم يردون على بعضهم البعض في الحفلات. أحياناً أجد نفسي فيما أعجبه، وفي أحيان أخرى أرفض ذلك كأن في داخلي أجيالاً كثيرة. } لكنك بالتأكيد تنطرب لشخصيات رواياتك. أعتقد أنك كل أبطالها ونصف أبطالها، وحتى الشخصيات الهامشية فيها. كل شخصية في رواياتي تضم شيئاً مني، وإلاّ من أين ستأتي الكتابة إن أقصيت أفكاري ومشاعري وتجاربي وترددي ويأسي.. من أولئك الذين اكتبهم، أو أكتب عنهم؟ في عام 1990، كتبت أيام زائدة تناولت فيها جدي، وكان حينها في تسعينات عمره. جعلت الرواية على لسانه، أي أنه كان الراوي، وخصوصاً في ذلك العمر المتأخر، ولم أكن قد بلغته طبعاً. جدي هذا، أن أتمكن من نقله داخلاً وخارجاً، الزمني أن أتأثر به. كنت أقول في الحوارات الصحفية، إنني حاولت الحلول فيه. لكني أجد الآن الأصح قولاً، إنني تلقحت به أو لقحته بي. وكذا كانت الحال مع شخصيات أخرى ليست من عمري ولا من جنسي. كتبت مرة عن توران شاه في رواية فيزيك. وهو ابن السلطان نجم الدين أيوب أيام المماليك. لم أستطع إلاّ أن أرجع ذاك التاريخ إلى حاضري، كما أذهب أنا في عمق ذلك الرجل الذي بلغ من كراهية أعدائه له، إن أذاقوه أنواع الموت جميعها، مثل الحرق والقتل والتمثيل بالجثث. طبعاً كان من الصعب أن أُحول تاريخ توران شاه إلى عمل روائي لو لم أكن واقعاً في دوامة الحرب، وعلى قاب قوسين أو أدنى من أن تودي بي. عموماً أجدني موجوداً في كل ما كتبت، لا أستطيع أبداً أن أفصل شخصياتي عني، وأن أجعل وجودها خارجياً. عند ذاك تتعطّل الكتابة عندي. } يكاد إرهاب اليوم يتجسد في ثوران شاه وغيره من قيادات ظالمة وأنظمة فاسدة تتوالد وتولد الظلم والقهر والموت. معلوم حين تقع الحرب يصير من العسير الكتابة عما عداها. نحن في لبنان جئنا إلى الرواية من الحرب. قبلها كان علينا أن ننتظر ثلاث سنوات حتى تصدر عندنا رواية جديدة. اليوم، من الصعب حصر كل ما يصدر كل سنة. أكاد على قناعة إننا لم نخرج بعد من الحرب، لكأن ثقل الحرب وأهوالها ودفعها العالم إلى التغيير على هذا النحو القسري والعنيف والشامل، هو تراجيديا في حد ذاتها. التراجيديا العامة التي تصيب كل من جرت بينهم، كما تصيب أفكارهم ونظرتهم إلى أنفسهم وإلى العالم. وما كنا فيه نحن اللبنانيين، بات يشاركنا فيه كتاب عرب آخرون. منذ بدء الحروب في هذه البلدان، صارت طبيعية الأدب مرتكزة على العنف والإرهاب.. حتى إن تطرّق كاتب إلى الماضي، نجده ذهب إلى حرب آنذاك. في المناسبة، كانت رؤيوية نظرة زهير بن أبي سلمى حين قال: إنها تنتج فتؤتم. لا أعرف أين سيذهب هذا العنف الممعن في التوحش، إلى أي هو ذاهب بنا أولاً، ثم بأخلاقنا وأدبنا؟ } وإلى أي مدى يغرف جديدك الروائي من الحرب والإرهاب؟ إنني أشتغل على رواية لا تجري وقائعها في الحرب، إنما فيما يليها، تظن شخصياتها أنها تخلصت من الحرب، وها هي بعد سنوات تكتشف أن تلك البذرة المرة مستمرة بالتوالد.