قرى شيعية وأخرى سنية تعايشت لمئات السنين في قرى حوض العاصي حيث تتداخل القرى اللبنانية مع نظيراتها السورية، متاريس موت تفصل بين القرى، تشطرها ضفتين، لا بل معسكرين، كل يرى في الآخر عدوا يجب محوه. وفي الطريق إلى الحدود السورية - اللبنانية، تودعك بلدة القصر، آخر القرى اللبنانية، وهي قرية صغيرة ذاع صيتها إثر ما تردد عن اشتباكات بين الجيش السوري الحر وحزب الله اللبناني، وما أشيع عن قيام الأخير بقصف معاقل المعارضة في منطقة القصير السورية بالصواريخ. تستقبل البلدة زائريها بصور ضحايا سقطوا في المواجهات مع إسرائيل، صور بهتت بفعل الزمن، تملأ جانبي الطريق الممتد حتى الحدود مع سوريا في شمال شرقي لبنان. ولا تكاد قدماك تطأ أرض البلدة، حتى تصل هاتفك الجوال رسالة نصية من وزارة السياحة مرحبة بك في سوريا. ينقطع الإرسال اللبناني أحيانا، فتشعر، لوهلة، بأنك بت، اجتماعيا واقتصاديا وحتى أمنيا، في سوريا. حاجزان شكليان، أحدهما لبناني وآخر سوري، تجتازهما فتصبح في القرى المرابطة على حوض نهر العاصي من الجهة السورية. لا تشبه المنطقة السورية شقيقتها اللبنانية، فالمساحات الخضراء تمتد على طول النظر بينما جارتها اللبنانية جرداء قاحلة. تتجاوز القصر وتدخل قرى زيتا ومطربة والصفصافة والسغمانية والفاروقية والعقربية والفاضلية وحوش السيد علي ودبين وناعم وحاويك والحمام والجنطلية، وهي قرى سكانها لبنانيون شيعة، يشاركهم فيها سوريون من الطائفتين العلوية والمرشدية وبعض السنة. في هذه القرى، يشتم الزائر رائحة الحرب والموت معا؛ ذاك أن بعضا منها تحول لمناطق نزاع على السيادة. فوفق هادي العبد الله، الناطق باسم الهيئة العامة للثورة السورية في محافظة حمص، فقد احتل حزب الله «منذ ما يقارب السبعة أشهر ثماني قرى سورية، من بينها أربع سنية؛ هي: الحمام والمصرية والجنطلية والفاضلية، وأربع شيعية تم تسليمها دون إطلاق الرصاص؛ هي: زيتا وحاويك والعقربية والصفصافة». ويؤكد صاحب الـ26 عاما، الذي تحدثت إليه «الشرق الأوسط» من لندن، أن هذه القرى سورية ولا غبار على ذلك، وقد «وفد إليها اللبنانيون الشيعة عقب حرب يونيو (حزيران) 2006»، الذين، كما يقول العبد الله: «استقبلناهم أحسن استقبال، وأمنا لهم الملبس والمسكن والمأكل». ويشير الناشط الذي كان يعمل قبل الثورة مدرسا في كلية التمريض بجامعة البعث، إلى أن «خرائط (غوغل) والبطاقات الشخصية لسكان المنطقة وأختمة مخاتير القرى السورية، إضافة إلى المناهج المدرسية، كلها تؤكد سورية الأرض». ويضيف أن «الجيش الحر» غض الطرف «آنيا» عن قيام الحزب باحتلال القرى، ويعلل ذلك بالقول: «حربنا مع النظام، ولا نريد الدخول في حروب جانبية يمكن أن تحل بالتراض في ما بعد». ويؤكد سكان الحوض من الطرف السوري أن تهدئة تم التوصل إليها بين سنة وشيعة المنطقة، وذلك عبر عقلاء من كلا الطرفين، كان على رأسهم علي زعيتر، وهو طبيب لبناني ينتمي إلى الطائفة الشيعية عمل وسيطا لعقد ما يشبه بصفة سلام تنص على عدم مهاجمة «الحر» لمناطق حزب الله مقابل سماح الأخير بنقل الجرحى عبر الأراضي اللبنانية. ويتابع السوريون في شرق العاصي الذين تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» هاتفيا من لندن، أن الهدنة المشوبة بالقنص المتبادل استمرت لشهور، قام خلالها حزب الله بحفر الأنفاق بين القرى السورية المحتلة وجاراتها الواقعة تحت سيطرة «الجيش الحر» الذي عمل على تعزيز البرهانية وسقرجة وأبو حورة. وفي هذا الصدد، يقول العبد الله إن معلومات وصلت من داخل حزب الله تفيد بأن لديه نية لاحتلال مزيد من القرى في العمق السوري وهو ما استدعى بقاء مقاتلي «الحر» في حالة استنفار. ويضيف الناطق باسم الهيئة العامة أنه في «ليلة 17 فبراير (شباط) الماضي، بدأ الحزب محاولته باحتلال مزيد من القرى، لكنه مني بخسائر فادحة نظرا لغياب عنصر المفاجئة». ولا ينكر العبد الله قتل «الجيش الحر» لعشرات من عناصر حزب الله في تلك الليلة، التي تحولت من معركة للاستيلاء على الأرض إلى معركة للاستيلاء على الجثث، مضيفا: «حاولنا قصار جهدنا خطف جثة، لكننا لم نستطع نظرا لغزارة إطلاق الرصاص». ويضيف الناشط الذي كان موجودا في عين الحدث: «لم نرد إيذاءهم، كان هدفنا الحد من تقدم مرتزقة الحزب. ولم نستخدم الأسلحة الثقيلة إلا بعد 13 ساعة من القصف الهستيري من قرية زيتة». وبدأ «الجيش الحر» بقصف المناطق السورية التي يحتلها حزب الله، بنيران دبابتين، لكن مع مواصلة القصف أجبر مقاتلوه على استهداف قرية «القصر»، وإثر ذلك توقف حزب الله عن استهداف العمق السوري. لكن سكان غرب الحوض من اللبنانيين الشيعة لديهم رواية مختلفة لما يجري في حوض العاصي؛ فرغم القلق من جار الأمس الذي بات اليوم عدوا، يبدي سكان المنطقة الخوف من الآخر الغريب الوافد إلى المنطقة. يقول علي، من قرية الحمام المحاذية لقرية أبو حوري، لـ«الشرق الأوسط» إن الموت «يأتي من هناك»، في إشارة إلى القرى السنية في الشرق، التابعة لسهل القصير الغربي، كابو حوري والخالدية والنهرية وسقرجة والبرهانية والقصير. يحكي أبناء جوسية وجسر الدف والنزارية والعاطفية، عن مسلحين يقودهم رجل يعرف بـ«أبو السوس» ويشكلون ما يسمى «كتائب المعارضة المسلحة». ويشير علي، ابن القرية التي لم يفارقها، عن «عمليات خطف وقتل» طالت أقاربه، كما يروي قصصا عن فنون التنكيل بجثث القتلى، وهجمات يشنها أتباع «أبو السوس» على القرية والقرى الشيعية الأخرى المحيطة، التي «تعرض أبناؤها، الذين لا يؤمنون بعقيدتهم، للذبح». وموفق أبو السوس، هو قائد ميداني لفرقة «الفاروق» المستقلة في منطقة القصير، وتقع تحت إمرته الدبابات التي قصفت قرية «القصر». ولدى سؤال «الشرق الأوسط» هادي العبد الله عن أسباب التنكيل بجثث القتلى الشيعية، نفى الناشط ممارسة فرقة «الفاروق» أو أي كتيبة أخرى للتعذيب أو التنكيل، مشيرا إلى أن «الموالين لحزب الله، حالهم حال الموالين لنظام الأسد، يعيشون حالة إنكار للثورة في سورية، فلا يعتبرون ما يجري سوى جماعات إرهابية تعيث في البلاد فساد». وتحدى العبد الله أن يعرض ذوو المعتدى عليهم أي فيديو يثبت تعرض أي جثة لعمليات تعذيب، مشيرا إلى ما سبق أن ذكره من أن «الجيش الحر» لم يستطع خطف أي جثة في ليلة هجوم حزب الله نظرا لكثافة النيران. وتبقى المشكلة الأساس بالنسبة لسكان الحوض، هي مشاركة حزب الله في القتال الدائر في سوريا من عدمها. يقول حسن الهق لـ«الشرق الأوسط» إنه «لا وجود لمقاتلي الحزب هنا». لكن هناك «لجان دفاع تشكلت من أبناء القرى لتؤلف خط دفاع عن مناطقنا». وردا على سؤال عن مصدر السلاح وما أشيع عن تسليح الحزب للشيعة، يرد شخص من آل زعيتر بأن سلاحهم فردي يقتصر على «الروسية» التي ستجدها في منزل كل راع ومزارع. ويطلب ممازحا التفتيش عن صواريخ «الكورنيت» و«رعد» و«زلزال» في منزله، مشيرا إلى أحد الشبان المسلحين بقربه: «عمره سبعة عشر سنة وحمل الكلاشنيكوف منذ أشهر فقط». أما عن مقتل القيادي في حزب الله الملقب بـ«أبو العباس» وسقوط ثلاثة آخرين في مواجهات مع «كتيبة البراء» بين قريتي الحمام وأبو حوري التي جرى تناقلها مسجلة على مواقع الـ«يوتيوب»، فتجد في القرى اللبنانية أكثر من قصة. ويقول مصدر حزبي من قرية مطرية لـ«الشرق الأوسط» إنه استهدف بعبوة ناسفة.. بينما يتحدث آخر عن مقتله أثناء تركيب عبوة. وفي ما يخص المقاتلين الثلاثة الآخرين الذين سقطوا، يجمع أبناء المنطقة على القول: «إن استشهاد هؤلاء مفخرة لنا، فهم لبنانيون مقيمون بالقرى السورية سقطوا أثناء دفاعهم عن عرضهم ومناطقهم ودينهم». لا ينفك الأهالي يتحدثون عن أن قريتهم تعرضت للهجوم أكثر من مرة، متحدثين عن صد لجان الأهالي لهجمات. وقال مواطن من قرية دبين إن «جبهة النصرة» نفذت عمليات، قتل خلالها كل من موفق العباس وخضر جعفر وعبد الله الزين. وبالسؤال عن إحدى رايات حزب الله الخافقة فوق أحد المنازل، ترد امرأة من آل زعيتر مستغربة: «نحن لبنانيون، هل أصبح ممنوعا علينا حرية تأييد هذا الحزب أو ذاك».. تصمت لبرهة قبل أن تضيف: «يا أخي، إيه! نحن نحب حزب الله». وعن مقتل أبو العباس، يقول هادي العبد الله: «السؤال البريء هو التالي: ماذا يصنع لبنانيون شيعة من (الحزب) في أرض القصير، التي تركها نصف أهلها بسبب القصف والحصار، سوى أنهم أتوا ليقتلونا؟». وعند مفترق كل طريق بين غرب حوض العاصي وشرقه، تجد حاجزا يشغله ثلاثة عناصر مسلحة أو أكثر. لا تميز هنا بين أفراد الجيش السوري أو اللجان الشعبية أو قوات الدفاع الوطني، فجميع الشباب يحمل السلاح. وكذلك يفعل بعض الفتية الذين يرتدون جعب الذخيرة والملابس العسكرية المرقطة للمفاخرة فحسب. تسأل مستفسرا عن الفارق بين اللجان الشعبية وقوات الدفاع الوطني، فيخبرك أبناء المنطقة بأن الأولى جرى إلغاؤها لصالح قوات الدفاع الوطني التي تتبع مباشرة لقيادة الجيش السوري. يتحدث هؤلاء عن خطة استباقية من المسؤولين الأمنيين للحؤول دون تحول قادة اللجان الشعبية إلى أمراء أحياء، قد يصعب على الدولة ضبطهم في ما بعد. الواضح أن خطوط التماس مذهبية، فالقرى الشيعية والعلوية والمرشدية تقابلها قرى بثقل سني. ورغم ذلك، يرفض أبناء المنطقة هنا ما يتردد عن القول بـ«حرب مذهبية»، تجري بين أبناء الطوائف المسلمة. ويتحدث الهق عن جيرة عمرها مئات السنين، متهما «العصابات المسلحة» بإجبار الناس بقوة السيف على حمل السلاح. ليس هذا فحسب، بل يأخذك إلى منازل، قال إن سوريين من الطائفة السنية لجأوا إليها هربا من جحيم المعارك. وفي هذا السياق، يشار إلى أن الإحصاءات التي يتداولها أبناء المنطقة تشير إلى أن هناك بضعة آلاف نازح قدموا طلبا للأمان من القرى المجاورة، لكنك لا تلحظ أي كثافة سكانية هنا. وإضافة إلى هؤلاء، تجد نازحين من الأقليات هجروا من قرية أبو حوري. ويذكر مختار قرية العقربية أن ثلث النازحين الموجودين في البلدة، قدموا من أبو حوري والحيدرية بعد إنذار كتيبة سلفية لهم بضرورة مغادرة منازلهم. ويقول العبد الله إن حزب الله لجأ مؤخرا لبناء متاريس ترابية يصل ارتفاع أقصرها لستة أمتار، تفصل القرى الثماني المحتلة عن شقيقاتها السورية. ورغم ذلك، يضيف الناطق باسم «الهيئة العامة للثورة»: «سنلتزم الهدوء طالما التزمه الطرف الآخر، أما أن يحتل الحزب شبرا آخر فهذا ما لا يرضى به الثوار، وسوف نبدأ بالسلاح الثقيل»، منبها المدنيين بضرورة الابتعاد عن مقار حزب الله التي قد تكون هدفا لصواريخ «الحر» في حال عاود اعتداءه على الأرضي السورية.