إن مسيرة تطور الاقتصاد عبر التاريخ، كما مسيرة تطور أية منظومة اجتماعية أو مؤسساتية هي مسيرة اكتشاف للعلوم والمعارف ومن ثم تطويرها على ضوء نتائج الممارسة، فإما أن تستمر وإما أن يسقطها الزمن. وفي عصرنا هذا، ارتبطت العلوم والمعارف ارتباطاً وثيقاً بالاقتصاد فظهر مفهوم اقتصاد المعرفة الذي تحقق فيه المعرفة الجزء الأكبر من القيمة المضافة، عن طريق توظيفها والاستفادة من معطياتها في تقديم منتجات أو خدمات جديدة أو متجددة. وبهذا أصبح اقتصاد المعرفة، أحد أهم عناصر التنمية الاقتصادية والبشرية التي كشفت عن حجم العلاقة الطردية بين تطور المنظومة البشرية وقدرتها على إنتاج معارفها، وبين تطور المنظومة الاقتصادية وقدرتها على تحقيق نتائجها الشاملة التي تطال الشكل الاجتماعي ومكانة الإنسان بإبداعه وفكره في منظومة العمل. لكن السؤال الذي يطرح نفسه على ضوء هذه الحقيقة: لماذا بعد كل هذه الاكتشافات المعرفية والعلمية وكل هذه التجارب التاريخية، لا تزال المنظومة الاقتصادية تعاني الكثير من الإخلالات في نتائجها والتي تجلت بشكل أساسي بما أحدثته من خلل في النظام البيئي والاجتماعي، حيث أصبح التفاوت الشاسع في مستويات الدخل، وخروج مجموعات بشرية كبرى من دائرة استهداف التنمية ودخولها دائرة الفقر، أحد أهم تحديات العصر الحديث، الأمر الذي دفع هيئة الأمم المتحدة إلى تبني معالجة هذه التحديات كأولوية لإخراج الاقتصاد العالمي من مأزقه في سلم بنود برنامجها الإنمائي للألفية الثالثة. وبما أن الاقتصاد الإسلامي كمنظومة عمل متكاملة، يرتكز على منظومة أخلاقية متكاملة أيضاً، وبما أن الأخلاق في تعريفها العلمي هي منظومة معارف ووعي تحدد سلوكيات البشر وتنظمها، فمن واجب الاقتصاد الإسلامي إذاً أن يقدم إجابته على السؤال المطروح أعلاه، وأن يسهم في تحليل الأسباب ليكون فاعلاً ومؤثراً في ابتكار حلول عملية تعالج معضلات العصر وتضعها حيز التنفيذ. قد يهمك أيضاً.. كيف انتقل الاقتصاد الإسلامي من "سحر الفودو" إلى إذهال المحللين الاقتصاديين بالغرب؟ إن العلوم والمعارف، بمعزل عن الوعي الأخلاقي، لا تعتبر خلاصاً بحد ذاتها. وعلى الرغم من أهمية ما قدمته للبشرية من وسائل لتسهيل العمل ورفعة الشكل الاجتماعي للبشر، إلا أنها أيضاً كانت سبباً في الكثير من المشكلات. كم من الاختراعات والاكتشافات فيما يتعلق بوسائل القتل والحروب، وخاصةً الأسلحة الجرثومية والبيولوجية المحرمة دولياً، أو بأنماط الحياة التي تشترط الصراع على تحقيقها، كانت حصيلة لتراكم المعرفة والخبرة العلمية، وسبباً في فناء الكثير من البشر؟ وكم من الابتكارات في مجال الاقتصاد كانت نتائجها كارثية؟ هل نستطيع إنكار أن اكتشاف نظم الإقراض التقليدية ومشتقات الديون والاستثمار فيها كانت سبباً مباشراً في تشكل الأزمات الاقتصادية التي كان آخرها أزمة 2007، خاصةً بعد اعتراف من كانوا في خضم المشكلة بأنهم أخطأوا في تبني هذه الأدوات ومشتقاتها؟ لذا نستطيع القول إن الاكتشافات والاختراعات والعلوم والمعارف بحد ذاتها لن تسهم في حل مشاكل البشرية إلا إذا كانت مبنية على عقيدة إنسانية وأخلاقية ملتزمة برفعة الإنسان قبل رفعة الكيان، شركةً كان أم مؤسسة. العلم والمعرفة هما أحد أشكال القوة، فإما أن تكون وسيلة للهيمنة وتفوق جهةٍ على أخرى، وإما أن تكون وسيلةً للتقدم الذي يشمل الجميع بدون أهمال أو إقصاء لأحد. هنا تتضح أهمية الاقتصاد الإسلامي بوصفه اقتصاد أخلاقي عقائدي في الجوهر، ويتضح أيضاً أن لا تعارض بين أخلاقيات العمل والابتكار، ولا تعارض بين التعاليم الدينية والضرورات الحياتية الحديثة. أخلاقيات الاقتصاد الإسلامي لا تحد ولا تكبح الابتكارات وانتاج المعارف، بل هي ضرورية في كونها الموجه والناظم لهذه الابتكارات، وفي كونها القاعدة الأساسية لإنتاج المعرفة والعلوم، وفي كونها المحفز كي تصب هذه المعارف في إطار الجهد البشري الخالص لمواجهة تحديات العصر. كذلك.. باحث إسلامي: "الحلال" ليس قطعة لحم بل أسلوب حياة.. والمسلمون لا يتحكمون بدورة الإنتاج قبل الاقتصاد الإسلامي، كانت السمة السائدة لوظيفة المعارف والعلوم هي تحقيق التفوق وبلوغ الحد الأعلى من الأرباح في وقت واحد. وكانت توظف المعارف لتعزيز التنافس الإلغائي الذي يقوم على ضرورة إلغاء أحد أطراف المنافسة، واحتكار قطاعات اقتصادية كاملة من قبل الطرف المتفوق، وليس التنافس التكاملي الذي يرتكز على توظيف المعرفة للتفوق في الخدمة والجودة والاقتراب أكثر من معالجة هموم الناس ومشاكلها. لقد جاء الاقتصاد الإسلامي ليساهم، ليس فقط، في انتاج معارف جديدة تشكل قواعد وضوابط العمل الاقتصادي، بل لأنسنة وخلقنة المعارف الموجودة والتعامل معها بصفتها إرث إنساني يجب الحفاظ على وظيفته الأصيلة، أي جعلها أكثر أخلاقيةً وإنسانية، عبر قياسها بالعقيدة الإسلامية التي أعطت للعلم والمعارف مكانة رفيعة وحددت وظيفتها كوسيلة لتحقيق العدل والمساواة ومنع الظلم والضرر. لذلك نستطيع اختصار مجمل المفاهيم والأخلاق والقيم والضوابط السلوكية في العمل الاقتصادي بمفهوم واحد وهو مفهوم الحلال. المعرفة في الاقتصاد الإسلامي، ولكي يكون ناتجها المادي حلالاً، يجب ان تكون حلالاً في دوافعها ومرتكزاتها وحكمتها وتصورها لمستقبل العالم الذي سيحدده الاقتصاد بتوجهاته وغاياته. إن مفهوم الحلال المرتبط بالاقتصاد الإسلامي، ليس مجرد أداة لقياس تطابق سلعةً ما مع معايير الشريعة، بل أن هذا المفهوم يشكل في عمقه وأبعاده منظومة معرفية متكاملة، تطال أصل الثروة وسبل إنتاجها بعدل وتوظيفها بعدل. كما تطال العلاقات الاجتماعية تحت مظلة المنظومة الاقتصادية، ومدى التزام النشاطات الاقتصادية بشروط الحفاظ على البيئة والمصادر الطبيعية للثروة، وعدم هدرها أو المغالاة في استهلاكها واستهلاك المنتجات القادمة منها. ومفهوم الحلال ملزِم في كامل سياق الممارسة الاقتصادية الإسلامية، فكل عمل أو مهمة مهما كانت صغيرة في حجمها ونتائجها، تعتبر مقبولة إذا توافقت مع هذا المفهوم ويتم التخلي عنها إذا تعارضت معه. وشمولية هذا المفهوم مستمدة من شمولية العقيدة الإسلامية التي لم تترك تفصيلاً مهما كان حجمه الا وحاكمته على أساسه. لذا فإن انتاج المعرفة في مسيرة الاقتصاد يجب أن تصب في خدمة تحقيق تنمية شاملة في شكلها البشري وشكلها الجغرافي. تنمية حلال كونها ترجمةً عملية ومادية للثقافة والمعايير الإسلامية التي يشكل مبدأ الحلال جوهر وعيها. تنمية تطال الجميع، كونها حق للجميع، تسهم في محصلتها النهائية في القضاء على البطالة والفقر والجوع والخوف من المستقبل، تحمي الإنسان من انتكاسات الاقتصاد التي قد تنجم عن الممارسات غير المسؤولة. هكذا فقط تصبح المعرفة نتاجاً كريماً للعقل البشري الذي كرم الله به الإنسان عن بقية المخلوقات. ويصبح العمل الاقتصادي بمجمله، وليس المنتَج فقط، حلالاً خالصاً لا تشوبه شائبة.