إن الفيلسوف العظيم كانط حين سئل عن معنى التنوير أجاب بقوله: «إن التنوير يعني تحرر الإنسان من الوصاية التي كان هو نفسه السبب في فرضها عليه.. والوصاية تعني عدم استعمال العقل دون توجيه من الخارج.. والمسؤولية تقع على الإنسان نفسه».. لو راجعنا تاريخ التطورات الحضارية التي يمتد نفعها إلى كل الناس لوجدنا بأنها كانت ثمارًا لأفكار فردية ريادية خارقة ومازال الإبداع فرديًّا وسيظل فرديًّا رغم كل مايقال عن مراكز الفكر ومختبرات البحث فالتطور سوف يبقى مرتبطًا بالعقول الفردية الاستثنائية المتوثبة أما التعليم فهو يقدِّم للدارسين ماهو مستقر من العلوم والفنون والمعارف فهو ليس حقلاً للإبداع وإنما هو مكانٌ للتلقي ومحاولة لتقديم واستيعاب ماهو جاهز... إن العقول الريادية في غاية الندرة وهي أعظم من أن تبقى محصورة في السجون المهنية فالتخصصات بمختلف مستوياتها هي إعدادٌ لأعمال مهنية محضة ابتداءً من أصغر المهن وانتهاءً بأعلاها كمهنة الأستاذ الجامعي فهي كلها في نطاق الأداء المحكوم وليست في مستوى الإبداع المفتوح باستثناء الذين يخترقون الحواجز ويتجاوزون الأُطُر لذلك لم يكن غريبًا أن نجد المبدعين والرواد يتخلون عن مجالات تخصصاتهم المهنية ويندفعون لإنجاز وتحقيق أعمال ريادية أو إبداعية في مجالات مختلفة من مجالات الفكر والفعل والعلوم والفنون إن دوافعهم الملتهبة تأخذهم عنوةً إلى هذا الاندفاع فلا يهدأون حتى يحققوا الأهداف التي تؤرقهم لذلك لم يكن غريباً أن يتخلى ادموند هوسرل عن مجال تخصصه المهني ويندفع في معالجة ظاهرة الوعي الإنساني المحيِّرة... إن الناس يحرصون على أن يتعلموا تشغيل واستخدام الأجهزة المصنوعة ولكنهم لا يهتمون بالتعرُّف على قواهم الذاتية الكامنة ولا على أجهزتهم العقلية والعاطفية المعقَّدة فيتركونها تندفع في حركة تلقائية عقيمة أو ضارة وبذلك يخسرون أعظم المكاسب ويتخلَّون عن أهم الواجبات.. إن هذه النقيصة البشرية المطْبقة ذات تعقيد شديد وقد نتجت عنها في كل الأمم معضلات لا حصر لها فهي ليست محصورة بفئة دون أخرى ولا بشعب دون آخر ولا بأمة دون غيرها وإنما هي نقيصة بشرية عامة مهيمنة إنها غفلةٌ تلقائية إنسانية شاملة فالإفاقة من هذه الغفلة الطبيعية لا يمكن أن تحصل تلقائيًّا.. إن الفيلسوف الألماني الأكبر كانط قد ظن أن الانعتاق من هذه الغفلة العامة متاحٌ تلقائيًّا للأفراد وأنه لا يحول بينهم وبين هذا الانعتاق سوى التشجُّع على التفكير المستقل وغاب عن الفيلسوف العظيم أن الفرد المبرمَج يكون مغتبطًا بما تبرمج به فهو لا يبقى مأسورًا بالبرمجة رغمًا عنه وإنما هو يعيش غبطة الوهم التلقائي بأنه يتحرك في المسار الصحيح وأن المغايرين تائهون وضالون وحمقى وربما يراهم أنجاسًا وغير جديرين بالحياة.. إن الفيلسوف العظيم كانط حين سئل عن معنى التنوير أجاب بقوله: "إن التنوير يعني تحرر الإنسان من الوصاية التي كان هو نفسه السبب في فرضها عليه.. والوصاية تعني عدم استعمال العقل دون توجيه من الخارج.. والمسؤولية تقع على الإنسان نفسه لأن السبب في فرض الوصاية لا يعود إلى عدم المقدرة في استعمال العقل بل إلى عدم الجرأة والتصميم.. لذلك تَشَجَّع أيها الإنسان واستعمل عقلك دون وصاية من أحد.. هذا هو شعار التنوير" لقد كان كانط والتنويريون من أمثال فولتير وقبلهم بيكون وديكارت يعتقدون أن الإنسان كائن عقلاني وأنه لا يحول بينه وبين استخدام عقله باستقلال سوى أن يتاح له ذلك لكن فلاسفة آخرين في نفس العصر من أمثال روسو وهردر قد فطنوا إلى أن الإنسان كائن غير عقلاني وأن عقول الأفراد محكومة بالبيئة التي تُكَوِّنُها وأن التعقُّل والتحقق ليس تلقائيًّا وأن الناس في كل مجتمع تتحكم بهم تلقائيًّا روحٌ جماعية تكوَّنت خلال أزمان موغلة في القدم ثم جاء الفيلسوف الألماني الخارق شوبنهاور ليعلن في كتابه (العالم كتصور وإرادة) ضآلة دور العقل في الحياة الإنسانية على المستوى الفردي والجماعي وليؤكد بأن العقل ليس أكثر من خادم للإرادة والأهواء فالإنسان تتحكم به الرغبات التلقائية الجامحة.. وعلى خطى شوبنهاور سار هارتمان في كتابه (فلسفة اللاوعي) ثم جاء فرويد فأصَّل أولوية اللاوعي حيث بيّن أن الوعي تابعٌ لللاوعي وأنه ليس سوى قمة طافية يؤدي وظائف آنيَّة وسطحية أما الفاعلية الحقيقية فهي هناك في بنية اللاوعي.. إن نص كانط يوحي بأن الأفراد يدركون وقوعهم تحت الوصاية وأنهم يتمنون الخلاص وأنهم بشيء من الشجاعة والإقدام والتصميم يستطيعون استعادة فرديتهم المسلوبة والارتقاء إلى مستوى استقلال التفكير.. ولكن هذا غير صحيح لأن كانط نفسه بقي مأخوذًا بالبرمجة التلقائية وخاضعًا لها بغبطة دون وعي منه بالوصاية التي تتحكم به تلقائياً حتى صدمته أفكار ديفد هيوم وأفكار روسو فاستيقظ من سباته فصار بهذه اليقظة العارمة الخارقة صاحب الفلسفة النقدية الشامخة التي مازال صداها يتردد في كل مكان.. إن هذه الواقعة التي فصلتْ فصلاً تامًا بين حالتين في حياة كانط هي واقعة ذات دلالة عميقة وعظيمة فلو لم يتعرض كانط لهذه الصدمة المزلزلة لبقي وثوقيًّا مغتبطاً بوثوقيته.. وهذا يؤكد أن المعضلة ليست بالسهولة ولا بالتناول الذي يوحي به قول كانط... لذلك انشغل الفيلسوف الألماني ادموند هوسرل بهذه المعضلة البشرية فانتهى إلى رؤية مختلفة وحاول علاجها بتقنية ذهنية مغايرة فقد أدرك أن التحرر من غبطة الأحكام المسبقة يتطلب إفاقة من التنويم الثقافي الذي تبرمَجَ به كما يتطلب إدراكاً جديداً لطبيعة الوعي كما يتطلب إجراءات عملية دقيقة وصارمة فالوعي الفردي يكون منسابًا تلقائيًّا مع مساراته المألوفة حتى يتم تداركه وضبطه وترشيده والتحكم به.. فقدَّم هوسرل تقنية ذهنية جديدة تساعد الإنسان بأن يشحن وعيه الآني بفاعلية استثنائية تتيح له أن يستوثق من وعيه: محتوى وأداءً فيحمله على التحديق المتروي الفاحص لذاته وللموضوعات التي يتصدى لها.. إن التباسات الوعي وعمليات التعقل قد شغلت جبابرة الفكر على امتداد التاريخ الفلسفي وقد استغرقت اهتمام ادموند هوسرل فَهَجَرَ مجال تخصصه وانصرف إلى الفلسفة من أجل الاسهام في حل معضلة العلاقة بين الوعي واللاوعي وكيفية ضبط حركة الوعي من أجل تكوين المعرفة الممحصة وهذا التحول الإبداعي شاهدٌ من شواهد إبداعية كثيرة تؤكد أن الإبداع في أي من مجالات الفكر والعلم والفن والعمل لا يتحقق إلا باهتمام تلقائي قوي مستغرق فهوسرل متخصِّصٌ في الرياضيات لكن اهتمامه التلقائي دفعه إلى هَجْر تخصُّصه والتحول عنه إلى مجال الفلسفة.. وكما يقول كولن ولسون: "كان هوسرل عالمًا رياضيًّا تحوَّل إلى فيلسوف" إنه بمحض اهتمامه التلقائي القوي المستغرق صار من أشهر فلاسفة القرن العشرين وقد قال عنه جرانيل: "إن هوسرل أعظم فيلسوف ظَهَرَ منذ الإغريق" فبوثبة عقلية باهرة أدرك طبيعة السيلان التلقائي للوعي مالم يتعرض لكابح يصوِّب حركته ويهتم بالتحقق من فاعليته إن هذا الانزلاق التلقائي للوعي يُهَمِّش القدرات العليا للعقل ويستبقي الجهل المركَّب سائدًا ويحمي الأحكام المسبقة والأوهام المستقرة من الكشف والفحص والتحليل فتتحكم الأوهام ويسود سيلان الأحكام المسبقة... وينبغي أن ندرك أن المراكز العليا للدماغ لا تنشط تلقائيًّا وإنما تنشط بمقدار ما تتلقاه من استثارة واستنفار لذلك كان ظهور فلسفة أو علم الظواهر أشبه مايكون بثورة فكرية في غاية الأهمية وسوف تكون عظيمة النفع على المستوى الإنساني كله لو أنها شاعت في الثقافات الإنسانية لأنها ستؤدي إلى تحولات كبرى شاملة في الوعي الإنساني لكنها ثورة مازالت معدومة التأثير على مستوى الوعي الإنساني العام فلم تصبح بَعْدُ مشكلةً أو ظاهرة أو معرفةً متداولة بين الناس ولم يصبح هذا الاكتشاف العظيم موضوعًا للمعرفة العامة وإنما بقي فكرًا عميقا ودقيقًا تتداوله القلة المثقفة فقط... إن فاعلية الوعي لا تتحقق إلا بعملية استثنائية قصدية تتكوَّن من خطوات: الخطوة الأولى إدراك تلقائية الوعي ومواجهة هذه التلقائية بما يحدِّد مسارها ويضبط حركتها ويستثير فاعلياتها.. أما الخطوة الثانية فهي التوقف القصدي عن هذه التلقائية وإيقاظ الوعي بكل فاعلياته الممكنة لمواجهة موقف الوعي أمام ماضيه وحاضره والموضوع الذي هو بصدد معرفته فينتقل بذلك من التلقائية الساذجة إلى القصدية الفاحصة.. أما الخطوة الثالثة فهي تعليق الحكم على الموضوع موقتاً لاستبعاد الأحكام المسبقة ومَحْض الموقف كل مايستحق من اهتمام وتركيز وتمعُّن... يُلخص ليشيك كولاكوفسكي في كتابه عن (هوسرل) هذا المنهج بقوله: "فالمنهج الفينومينولوجي يقوم على مباطنة الحقائق الأولية ولكن في الجهد المتصل لتطهير الوعي الذاتي من القوالب الجاهزة والساذجة ومن الآراء الشائعة اليومية ومن البداهات الظاهرة للعلم ومن المفاهيم الموروثة والمضللة ومن حجب الاختلاف بين وقائع التجربة ومحتواها" إن ليشيك قد كرَّس كتابه لنقد المنهج الفينومينولوجي لكنه لم يكن مقنعًا غير أنه كان موضوعيًّا وأمينًا في العرض.. يقول ادموند هوسرل: "علم الظاهريات الخالص.. إنه جوهرياً علم جديد ينأى بنفسه عن الفكر الطبيعي" أي أنه ليس فكرًا طبيعيًّا تلقائيًّا وإنما هو يقظةٌ طارئة وفكرٌ قصديٌّ استقصائيٌّ فاحص إنه استنفار لقدرات العقل العليا لضبط حركة الوعي وترشيد أحكامه فليس التحقق من طبيعة الفكر التلقائي وإنما التحقُّق عملية دقيقة ذات مستوى استثنائي نادر لا يحصل إلا حين يدرك الفرد الطبيعة التلقائية لتفكيره فيعمل على ضبطه وترشيده وتسديد خطواته لذلك فإن هوسرل يقول: "لا يعني لفظ القصدية شيئًا غير ما يختص به الوعي بصورة جوهرية وعامة من كونه وعيًا بشيء ما ومن كونه يعمل بوصفه تفكيرًا موضوع تفكيره في ذاته" إن القصدية تعني الانتباه القوي لحركة الوعي وضبط فاعليته ومنعه من تلقائية السيلان والانزلاق غير الفاحص وإرغامه على الإمعان في فحص ذاته وفحص مسبقاته وفحص الموضوع الذي أمامه لكي يعيه وعيًا موضوعيًّا علميًّا فيكون متحقِّقا وبذلك يستبعد الأحكام المسبقة ويلتزم بالموضوعية بالقدر الذي تسمح به الطبيعة البشرية.. إن هذا المنهج يريد منا أن لا نعتبر الوعي معطىً ناجزًا وإنما هو عملية تتجدَّد فيها بلورة وصناعة الوعي ككيان فاعل بانتباه وكما يقول دوفرين: "إن القصدية عند هوسرل ليست هي تلك القدرة التي يتجه بها الوعي صوب الموضوع بل هي كيان الوعي بوصفه كيانًا منفتحًا على الموضوع" فالوعي لم يَعُدْ متروكاً لحركته التلقائية وإنما صار جهازًا محكومًا بالضبط والمراقبة والتشغيل الدقيق مما جَعَلَه متحفِّزًا وممتلئًا بحس المسؤولية منتبهًا لفهم ذاته ومحْتشدًا لفهم مايراد منه فهمه إن القصدية تعني قطع تلقائية حركة الوعي المنساب وإجباره على التوقف الفاحص لفحص ذاته والتمعن في الموضوع الذي عليه أن يعرفه.. إن الناقد الشهير رتشاردز يرى أن الظواهرية أعظم الثورات الفكرية فيؤكد في كتابه (مبادئ النقد الأدبي) بأنه: "ربما لا توجد ثورة في الفكر الحديث تفوق أهمية تلك الثورة التي نتجت عن اكتشافنا المتزايد لما نتحدث عنه وقد أعقبت هذه الثورة بالضرورة تغيراتٌ شاملة في مواقفنا إزاء العالم والإنسان ومن ضمن هذه التغيرات نخص بالذكر ثلاث نزعات: نزعةٌ واسعةُ الأفق إلى التسامح وأخرى إلى الشك وثالثة ترمي إلى إقامة دوافعنا السلوكية على أساس أسلم" إن إدراك الطبيعة التلقائية للوعي تترتب عليه نتائج عظيمة فردية واجتماعية وإنسانية فلمْ يَعُدْ سائلاً منفلتًا سائبًا دون تنظيم أو ضبط أو رقابة وإنما صار كيانًا فاحصًا يدرك أن مهمته التحقق.. ومع صعوبة الانفكاك من هيمنة الانتظام التلقائي في السائد فإن هذا الإدراك يخلق حساسية جديدة تجاه العالم ويفتح للوعي آفاقًا كانت محجوبة بالتلقائية فحين يعلم الناس بهذه الطبيعة التلقائية الخادعة المضلِّلة للوعي فإنهم سيضعونه موضع المساءلة فلا يقبلون منه أحكامه المسبقة إلا بعد تحليل وتَثَبُّت كما أنهم سوف يتوقفون عن الثقة التلقائية الصماء العمياء بأحكامهم غير الممحصة فيحل الشك والتحقُّق محل الوثوق الأصم الأعمى وتنشأ فيهم عادةُ التأني والفحص والتمعُّن وبهذه العملية الإدراكية الواعية يتخلخل الوثوق التلقائي الساذج فينهار الصلف وتجف منابع الرعونة ويتقوَّض التعصب ويحل محله الرفق والتسامح والتواضع ليس هذا فحسب بل يحصل بهذا الإدراك لطبيعة الوعي تبدُّلٌ عميقٌ وشاملٌ في تفكير الفرد وسلوكه وتعامله وعلاقاته وأحكامه وتقييماته ومواقفه من الأشخاص والأعمال والمواقف والرؤى إنه تبدُّل نوعي في الوعي ومع الزمن وتوفُّر وسائل التواصل بين الأمم يمتد هذا التبدل إلى المستوى الإنساني كله فتكتسب البشريةُ بداهةً جديدة ممحَّصة فيحل الوئام محل الخصام وبذلك تتجه الإنسانية نحو النضج الثقافي وتصبح قادرة على التفاهم والتلاقي والاعتراف المتبادَل... يقول المفكر المغربي عبدالسلام بنعبدالعالي في كتابه (ثقافة الأذُن): "كانت ثورة هوسرل تتمثل أساسًا في إقامة نظرية تجعل من الوعي واقعةً فريدةً..." ثم يقول: "ما أبعدنا عن فكرة القصدية التي تجعل التفكير انفصالاً وقطيعة" ويؤكد كولن ولسو في كتابه (فن الرواية): "أن المشكلة المركزية للوعي الإنساني مرتبطةٌ بالربوت وهو الجزء الآلي (التلقائي) فينا.. ومن ناحية أخرى فإننا حالما ندرك أن القوة التي نرى بواسطتها العالم تعتمد اعتمادًا كلياً على مدى الاهتمام الذي نضعه في عملية الإدراك". وتقول الفيلسوفة البريطانية ميري ورنوك في كتابها (الذاكرة في الفلسفة والأدب): "لقد وصَفَ هوسرل طريقته الفلسفية بأنها وضْع العالم بين قوسين وكان يعني بذلك أن تُنحَّى عن العقل كل معرفة علمية وكل افتراض مسبق وكل شيء تعلمناه لكي يصير بالإمكان الكشف عن جوهر الأشياء كما نجرِّبه فعلاً.. ذلك ماكان يعنيه بالرجوع إلى الوقائع نفسها" ويقول تيري إيجلتون في كتابه (نظرية الأدب): "وضَعَ هوسرل الموضوع الواقعي بين قوسين للقيام بفعل معرفته" فالتعرف هو فعلٌ قصديٌّ دقيق وليس معطًى تلقائيًّا... أما أستاذ الفلسفة الدكتور عبدالغفار مكاوي فيقول في كتابه (شعر وفكر): "لعل من أهم الاكتشافات التي توصلنا إليها حتى الآن اكتشاف الفارق بين التجربة المباشرة والبحث (المقصود الواعي) فنحن حين نعيش في العالم لا نعيش كما لو كنا نريد أن نجعله موضوعًا للبحث أو كما لو كان مبحثاً نهتم بالنظر فيه وحتى لو وجَّهنا اهتمامنا نحو الجزئيات فإننا لا نبحث في بيئة هذه الأشياء ولا في آفاقها التي تُعطَى". ويقول د. مكاوي: "وينبغي علينا فيما يتعلق بمسألة البحث أن نلتفت إلى أمر مهم يتصل بمنهج الكشف الظاهراتي.. إن ما أجده عندما أغيِّر موقفي وأتجه إلى البحث لا يبقى على ما كان عليه في الأصل أي على ماكنت أجرِّبه تجربةً مباشرة وأحياه حياةً مباشرة" إن الأصل في الوعي أنه مؤطَّر بما يتبرمج به وبنمط التفكير السائد الذي اكتسبه وأنه ينساب أو يتدفق تلقائيًّا من اللاوعي ومن تنميطاته الجاهزة المستقرة وأن تلقائيته تجعله لا يتحقق ومع ذلك فإنه يتوهم أنه متحقِّق من كل مايقع تحت تقييماته وأحكامه لذلك فإن علم الظواهر يرى ضرورة وقف الانزلاقات التلقائية للوعي.. والانفصال عن الجاهز.. والقطيعة مع الوثوق التلقائي البليد.. وإجباره على التوقف وإمعان النظر في ذاته والتمعن في أي موضوع قبل تقييمه أو الحكم عليه.. إن المعرفة الحقَّة لا تتحقق تلقائيًّا بل إنها فعلٌ قصديٌّ مضادُّ للتلقائية إن علم الظواهر يطالب الإنسان بأن يسائل وعيه ويوقف سيلانه وأن يتفهَّم العالم تفهمًا استئنافيًّا دائمًا يَجُبُّ السوابق ويكتسب بداهة جدِّية جديدة مختلفة نوعيًّا عن البداهة التلقائية إن على الإنسان بأن يتوقف باهتمام وتمعُّن أمام طبيعة وعيه وأمام الموضوعات وأن يتعرَّف عليها ويفحصها بدقة وعمق فالمعرفة الحقيقية لا تتكوَّن تلقائيًّا وإنما هي ثمرةٌ للفعل المعرفي إنها نتاج القصد والفحص والتعرف بعمق وتدقيق إنها خروجُ الوعي عن سلبيته وكبح تدفقه التلقائي والتحرر من أحكامه المسبقة.