لو تمت كل الإجراءت اللوجستية لبدء مسار رفع العقوبات الاقتصادية الدولية عن إيران، يفترض أن يصدر بيان عن الوكالة الدولية للطاقة النووية يفيد بتقيد إيران بمضمون خطة العمل الشاملة المشتركة ( JCPOA ) مع المجموعة الدولية السداسية، يحدد بعدها يوم التنفيذ تدرجاً تبعاً لبنود الخطة ومندرجاتها. نقول مسار رفع العقوبات، لأن الخطة المشار إليها تتصل حصراً بالملف النووي الإيراني. هناك عقوبات لا علاقة لها بالملف. وتتصل بحقوق الإنسان وبتمويل إيران منظمات مصنفة إرهابية من وجهة النظر الأمريكية. لو صح ما تقوله إيران بأن الاتفاق يشمل ضمناً كل أنواع العقوبات، ودون ذلك إشكالات تبقى ملتبسة، فالتبعات التي تترتب على ذلك ليست معزولة عن طبيعة العقوبات المتوقع رفعها، وعن المبالغ النقدية التي تطمح إيران إلى الحصول عليها بعد بدء مسار رفع العقوبات. والالتباس المذكور مشكول أيضاً على حتى بعض وسائل إعلام. الخزانة الأمريكية تحتجز نحو 56 مليار دولار أمريكي. وهناك نحو 85 ملياراً في المصارف الأوروبية. إيران تأمل أن يفرج عن نحو 30 ملياراً من النقد المحجوز لدى الجانبين في غضون ثلاثة شهور. وتبرز في هذا المجال إشكالية تصنيف العقوبات من وجهة النظر الأمريكية بعيداً عن الملف النووي. تحمل الإدارة الأمريكية إيران مسؤولية تعويض عائلات ضحايا المارينز في الانفجار الذي استهدفهم في مطار بيروت بعد الاجتياح الإسرائيلي لبنان في 1982. وتتهم به حزب الله. أقرت محكمة بداية في نيويورك تعويضاً بنحو 1.75 مليار دولار أمريكي. استأنف المصرف المركزي الإيراني الدعوى. وسينظر فيها خلال شهور. هناك أيضاً 5 ملايين لكل من عائلات ذوي الضحايا الذين قضوا في انفجارات الخبر في المملكة العربية السعودية. تصنيف الولايات المتحدة إيران في لائحة رعاية المنظمات الإرهابية وتمويلها، من شأنه التقنين في الإفراج عن النقد على خلفية التطورات المحمومة في الشرق الأوسط وتورط الجانب الإيراني فيها. وإذ يختلف الموقف الأوروبي في هذا الجانب عن الموقف الأمريكي، فلا يعتقد أن النقد المحجوز في المصارف الأوروبية سيكون متاحاً حجماً وتوقيتاً كما ترغب إيران. كما أن عودة إيران ومصرفها المركزي إلى نظام سويفت للتحويلات المالية الدولية، مشروط بالموافقة الأمريكية المسبقة. الأمر الذي يشكل عقبة كبيرة في وجه صادرات النفط والغاز الإيرانية وتجارتها الخارجية بعد رفع مفترض للعقوبات. بحسب الوكالة الدولية للطاقة النووية، التزمت إيران بإرسال الجزء الأكبر من اليورانيوم المخصب إلى روسيا. وخفضت أجهزة الطرد المركزي إلى 5060 جهازا في مفاعلي ناتانز وبوردو. بقي التأكد من إتلاف قلب مفاعل آراك العامل على المياه الثقيلة وملئه بخرسانة من الأسمنت. ومن ثمّ تصدير 40 طنا من المياه إلى الولايات المتحدة كما ينص الاتفاق. وكان مصدر إيراني مسؤول صرح الأربعاء الماضي بأن الأمر رهن باتفاق لم ينجز بعد مع الصين والولايات المتحدة. تعول إيران على رفع العقوبات، مفتاح الفرج من أزمة اقتصادية واجتماعية كبيرة، وقت بدأت فيه علاقاتها السياسية والدبلوماسية تتصدع مع محيطها العربي والإسلامي، تبعاً لمواقفها المعلنة بتغيير خريطة المنطقة. طموحها بتحرير النقد أولاً، والعودة إلى أسواق النفط ثانياً، نابع من واقع تراجع كبير لأسعار النفط من جهة، والحاجة الماسة إلى المليارات لتحسين قدراتها التكنولوجية في هذه الصناعة التي تحد من قدرتها على الاستكشاف والإنتاج والتصدير. توقع زيادة صادراتها النفطية بنحو نصف مليون برميل بعد شهور معدودة من رفع العقوبات، سيسهم في زيادة المعروض ومن الضغوط الإضافية على أسعاره. التقديرات الحكومية الإيرانية تفيد بحاجتها إلى نحو 180 مليار دولار أمريكي لتحسين البنية التحتية. من المستبعد توفير هذه المبالغ من دون استثمارات أجنبية مباشرة لا تزال في طور استطلاع فرصها. لونحينا جانباً العقبات الجيوسياسية التي تواجهها إيران، اللصيقة بأية محاولات للدفع بالاقتصاد، فالمستثمرون الأجانب الذين بدأوا في التوافد إلى طهران يدركون افتقادها إلى رؤية واضحة للنهوض بالاقتصاد، وسط هيمنة التيار المتشدد والحرس الثوري على القرار الاقتصادي والقطاعات الاقتصادية المهمة في البلاد. وقد وقف هذا التيار في وجه محاولات الإصلاح الاقتصادي التي قام بها الرئيس الأسبق محمد خاتمي ويطمح إليها الرئيس حسن روحاني. علماً، أن ضم الحرس إلى لائحة الإرهاب الأمريكية، سيفرض على المستثمرين الغربيين خرق المقاطعة الأمريكية المالية والاقتصادية المفروضة عليه بالغا ما بلغت أساليب المواربة التي قد تستخدمها الحكومة الإيرانية لتجاوز هذه العقبة. عمق القرار الاقتصادي والمصرفي هو في يد الحرس الثوري. ويعلم روحاني أن الاقتراب من المؤسسات التي يهيمن عليها، وهي قبلة المستثمرين الأجانب عسير ومعقد. كما يعلم أن روسيا المقدر لها حظوة تمييزية من الاستثمارات مكافأة لفلاديمير بوتين في بقاء نظام دمشق، ليست بديلاً من الاستثمارات والتكنولوجيا الغربية. ستفعل إيران ما يطلبه الشيطان الأكبر لرفع العقوبات. وستتحين الشركات الغربية والآسيوية فرص الاستثمار المتاح في سوق عطشى لكل شيء. يبقى مربط الفرس موقف إيران الإقليمي وعلاقاتها بجيرانها العرب. العقوبات تعود فوراً لو انتهك الاتفاق وقبل نهاية مسار رفعها. مشروع الصواريخ الباليستية الصالح لحمل رؤوس نووية، هو الآخر انتهاك لقرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1929 الصادر في 2010. وتبعاته عقوبات أيضاً.