إذا كان الرمز هو ميسم النص الشعري الحديث، فهو ليس خصوصية تمنع من الاشتغال عليه في أجناس أدبية أخرى، خصوصا القصة القصيرة جدا، التي ترتكز على الإيحاء والتلميح والتكثيف ما يجعلها كتابة رامزة بامتياز، تسعف صاحبها في التعبير عما يخالجه دون مباشرة ممنوعة، أو استغراق فاضح، فيركب جناح الرمزية ويفتح أمام قارئه باب التأويلات مشرعا. ونأخذ على سبيل المثال المجموعة القصصية «لسان الأخرس» لصاحبها عبدالله المتقي، فهي من جهة نموذج للكتابة القصصية القصيرة المتقلبة بين الاقتضاب والإيجاز المطلق، وبين القصصية التي تمتد أحيانا لتتجاوز الصفحة الواحدة، ومن جهة أخرى سرد غني بالإشارات الترميزية التي تغني السارد عن الإسهاب والتفصيل، وتمنح المسرود له فرصة الاستحضار والعودة بالذاكرة صوب محطات معرفية متنوعة ومتضاربة. إنها تمارس على المتلقي نوعا من العصف الذهني غير المقصود لذاته بقدر ما كان المقصود الإمتاع والالتذاذ بالنص، وأحيل هنا على لذة النص في مفهومها البليغ والذي خلده رولان بارت لكن قفز عليه الكثير ليتحدثوا عن شيء آخر غير الالتذاذ في بعده الدلالي، حيث قال عنها «إنها القيمة المنتقلة إلى قيمة الدال الفاخر». تكتسي الأضمومة «لسان الأخرس» حلة رمزية جمالية انطلاقا من غلافها الداكن الألوان والصور، والذي تندغم فيه الدلالات المتضاربة بين الوهن والقوة، الفقر والغنى، البؤس والكفاف، ما يجعل منه نصا صعب المراس، وتزداد رمزيته حين تلقي نظرة على المحتوى تمهيدا للقراءة والاستمتاع. فتلفي تضافرا جماليا بين دلالات بعض العناوين الداخلية للنصوص من جهة، وبين بعض النصوص من حيث المضمون من جهة ثانية. فتضافر العنوان الرئيسي مثلا للمؤلف «لسان الأخرس» وعنوان الأقصوصة داخل المجموعة وهو «لسان الأعمى»، يطرح لديك وبشكل تلقائي التساؤلات التالية: لماذا لسان الأعمى وليست عيونه؟ لماذا لسان الأخرس وليس لسان الثرثار؟ إنها مفارقة متضمنة لبناء رمزي له دلالات مشرعة على التأويل، فالبكم أو الخرس يشمل العمى والصمت معا، ليتخلص الأخرس الناطق الذي جاء في العنوان من عاهتيه، ويتقاطع لسان الأعمى مع لسان الأخرس عند صفة الكلام، ونستحضر عند هذه المفارقة البيت الشهير للشاعر العباسي المتنبي: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم إنه رمز التحدي حين ينطق الأخرس، وينظر الأعمى، فيكون عبدالله المتقي من خلال عناوينه يدعو المتلقي لوجبة قصصية حبلى بالرموز، يؤكد جماليتها ويراهن على قدرتها على خلق الدهشة. إن القاص يتوسل الرمز في كتابته «قصة قصيرة جدا» كطاقة إلهامية تسعفه في الاستغناء عن المألوف وخلق التوازن من نقيضة، التركيز والإسهاب، التحديد والتفصيل، التلميح والتصريح، فكان الشطر الأول له والثاني للمسرود له، يوجز الأول ويطلق الثاني العنان لخياله يتعقب المؤشرات الدالة وغير الدالة. فكانت رموزه كالتالي: • الرمز الأسطوري: في قصة أوديب، الذي وإن كان مناقضا للواقع في الفعل والحدث فهو يحمل معنى رمزيا مطلقا وأزليا، فأسطورة أوديب اعتمدها علم النفس في تحليل علاقة الابن بالأم التي تنطلق تحديدا من موقع الحلمتين لحدود الاكتمال، وبلوغ مستوى القدرة على التغذية والتكون بعيدا عن الأم / المرأة. وتبقى هي سر الوجود الإنساني والمرجع. الأسطورة ليست حقيقية إلا من خلال ما تهدف إلى تحقيقه؛ سواء تصحيح وضع معين، أو معالجة قضية اجتماعية أو إنسانية. وهي في القصة تعبير عن تمرد غير مباشر ضد الواقع الواضح في القفلة، حيث انصرف إلى التأمل الصوفي، قال السارد: «ولأنه ليس أوديب تماما هجر أمه والناس، كي يعيش متنسكا في بستان للأعشاب الطبية». • الرمز الفني الإبداعي: يمثله سلفادور دالي في قصة: مثل سلفادور، الذي يتضمن لوحات فنية صادمة تحيل في رمزيتها على المدرسة السريالية، وقد جاء في سرد القاص على شكل لقطات مرقمة يوحدها الجنون والغرابة، والتجرد الكلي من منطق الواقع. 1 - وهي في شدة توترها تمثل خلاص الذات الساردة من عالم المتناقضات الذي لا يرضي غرابة تطلعاتها، إلى عالم الجنون الكامن في مرسم سلفادور الشخصية الواقعية النموذجية في جنونها وعبقريتها الرمزية. وللإشارة فكل مقطع يمكن أن يمثل في استقلالية تامة قصة قصيرة جدا، ليبقى تجميعها رمزا لانشطار الذات الساردة. • الرمز الفني الأدبي: ترصده قصة: صمويل، وقد جاء فيها: في المحطة، لا شيء غير صفير القطارات القادمة من بعيد، ورجل يتأمل حقيبته وسكة الحديد. من القطارات ينزل قليل من المسافرين، ولا يلتفتون إلى هذا الرجل الذي تعصف بعظامه حمى الانتظار. في الحقيبة ملابس داخلية لا غير، وقناع لممثل اسمه «غودو»، ويبدو كما لو أنه يمزق تذكرة سفره. حسنا: الرجل الآن يبدو كما لو أنه «بيكيت» على وجه التشبيه، ينتظر قطارا قد ينقله لقاعة المسرح كي يتابع مسرحيته «في انتظار غودو». ترى ماذا يريد السارد تمريره من خلال هذا النص؟ هل يريد تعريفنا بالشاعر والروائي والناقد والمسرحي صمويل بيكيت؟ هل في مقومات هذه الشخصية المستدعاة من الواقع ما يتماهى مع شخصية السارد؟ وهل يبغي من وراء ذكر مسرحيته الشهيرة تشبيه الحياة بمسرح كبير للعبث واللا معقول؟. القصة ببنيتها السردية الجمالية، وبتناغم عناصرها، وبرموزها، تمرر رؤية السارد للحياة، وهي رؤية ملأى بالسواد والكآبة، ورمز صمويل في مسرح العبث يتناغم مع طرح السريالية التي يميزها اللا تواصل بين الشخصيات كما رأيناه واضحا في اللوحات التي عرضتها قصة «مثل سلفادور». والقطارات والمحطة رموز لحياة غير مستقرة، «توديع / استقبال»، «لقاء / انتظار» سيطول ويمتد كما امتد انتظار صمويل لغودو في الفن المسرحي. تظهر الذات الساردة من خلال الرمز ملامح ثورتها غير المعلنة على المدرسة التقليدية، وحلمها بمستقبل أكثر رحابة وتحررا للقصة القصيرة جدا. • الرمز الأيقوني: في قصته زهرة قرمزية، مفارقة على مستوى العنوان من حيث ثنائية الزهرة والدماء، يوحي بها لون الزهرة الأحمر القاني. دماء الشخصية الواقعية ناديا أوجمان، الشاعرة والصحفية الأفغانية، زهرة في وجه العنف، مبدعة تعدم على يدي زوجها والتهمة: «اقتراف قصائد من رأس الشيطان» كما جاء على لسان السارد. أوجمان الصوت الحر، رمز النضال الإبداعي والاستجابة لبوح الذات الشاعرة، اعتمدها ليخرج تجربتها المريرة التي انتهت بالقتل من خصوصيتها ويضفي عليها الطابع الأدبي لتصبح شخصية عامة، وأيقونة تؤرخ لأيديولوجيا التمييز ضد الجنس والعنف ضد المرأة. وهو في اعتماده هذا النوع من الشخصيات ينقل الواقع إلى المتخيل. فجاءت قصته في انزياحها نحو قصيدة النثر في شكلها المقطعي مثار اندهاش القارئ، حيث تشابه عليه إن كان ما يقرأه قصيدة شعرية، أم لوحة قصصية سريالية، في قفلتها التي تتأرجح صدمتها من حيث القوة بين قارئ وآخر. * كاتبة من المغرب في المرسم: لوحة ملطخة بالدماء، وفي زاوية بعيدة، جثة امرأة تكاد تتفتت من البرودة. ***** على كرسي كلاسيكي: رجل يدخن، يفتل شاربيه، ويتأمل لوحة لا يعرف قصتها سواه. ***** بداخل اللوحة: امرأة في حالة هستيرية، تفتح نافدة على عجل، ثم تلقي بنفسها. ***** هناك جثة لامرأة ملطخة هناك.. سلفادور يفتل شاربيه.