حضور خجل تسجله دعاوى الحجر في المحاكم، لكنها على محدودية عددها يجب عدم إغفالها، أو التغاضي عن فتح أبواب الحديث عنها، فخصوصيتها محفوظة إن كانت موجودة، إلا أن طرحها واجب لكونها تضرب في عمق الإنسانية، حيث تقام ضد حجر الأساس في حيواتنا جميعاً، ألا وهم الآباء وأيضاً الأمهات، عصب وجودنا، وسند أيامنا، وربما وعلى الوجه المقابل يكون المقامة منه الدعوى أباً أو أماً، تخلى أبناؤهما عن مد يد المساعدة لهما بعدما اشتد عضدهم، وقوي بدنهم، ولم يصبح لوجودهما في حياتهم - ومن وجهة نظرهم- أهمية تذكر، ولا فائدة تنشد. ففي قاعة إحدى محاكم الدولة، وقف ثلاثة أبناء وقد علا العبوس ملامحهم، وتسارعت كلماتهم، وتولى كبيرهم الحديث قائلاً: الوالد ميسور الحال، ولديه الكثير من الأموال السائلة والمنقولة، وقد عمل على تربيتي وأشقائي خير تربية بعدما توفيت الوالدة ونحن صغار، واليوم، وقد أشرف على السبعين من العمر، وبعدما وهنت عظامه، وضعفت ذاكرته، وسكنته الأمراض، وأصبح لا يدري أحداث يومه من أمسه، يفكر في الزواج، فهل من المنطق تفكيره في ذلك، نطالب نحن أبناؤه الحجر على أمواله، لأن من ستوافق على الزواج منه، سيكون هدفها الأوحد الحصول على أمواله فقط، وليس من المنطق أن تذهب لها، ونحرم نحن منها. وفي محكمة أخرى، وقف مسن لا يكاد يقيم ظهره، وقد ظهر اعتلال صحته على ملامحه، وتحشرجت كلماته وهو يقول: لا أكاد أجد قوت يومي، بعدما هرمت، وضعف بدني، وذهبت قوتي، واليوم وقد أصبح أبنائي جميعاً يشغلون مناصب مرموقة، ويتقاضون رواتب كبيرة، لا أجد منهم إلا العقوق، والنكران، والجحود، إذ لا يسألون عني، ولا يهتمون بمساعدتي، وأكاد لا أراهم إلا لماماً، حتى لا أطالبهم بشيء، ولا ألزمهم بمسؤوليتي، جئت لكم اليوم أطالب بإلزامهم بعلاجي، ومنحي ولو القليل الذي يمكن أن اقتات منه على قدر استطاعتهم. وتساقطت دموع المسن. قضايا الحجر، بين واقعها الحقيقي في المحاكم، والأسباب المختلفة التي تؤدي لها، وبين التعامل القانوني معها، والمنطقية في إقامتها من عدمه، يدور التحقيق الآتي: يؤكد خليفة محمد المحرزي رئيس المجلس الاستشاري الأسري، أن ساحات المحاكم تشهد بين الفينة والأخرى فتح ملفات دعوى عقوق مرفوعة من الآباء ضد أبنائهم، كما تسجل في الوقت نفسه دعوى حجر مرفوعة من الأبناء ضد آبائهم، ويقول: لا ننكر أن البعض يلجأ إلى دعاوى العقوق الكيدية التي قد ترفع للحجر على الأب مثلاً، للاستحواذ على أمواله وممتلكاته، وقد كشفت إحدى الدراسات في جمهورية مصر العربية أجراها المركز القومي المصري للبحوث الاجتماعية والجنائية عن أن مدينة القاهرة وحدها نظرت محاكمها خلال عام واحد ألفي قضية حجر رفعها أبناء ضد الآباء، وأكثر من ألف دعوى حجر أخرى حركها أبناء ضد آبائهم، وتم التنازل عنها في مراحل التقاضي الأولى، وهذه النسبة ارتفعت ثلاثة أضعاف عن مثيلاتها من قبل، و90% من هذه الدعاوى كيدية حكم القضاء فيها لمصلحة الآباء، أما في منطقة الخليج فلا توجد أرقام واضحة، ونسب تحدد مدى انتشار هذه الحالات سوى المملكة العربية السعودية التي لديها أرقام واضحة في محافظاتها ومناطقها المختلفة. ففي بعض الأوقات يضطر الأبناء إلى فتح دعوى على والدهم للحجر على أمواله وممتلكاته بهدف حمايته، والسيطرة عليه للحد من تبديد الأموال، وقد تعاملت مع أبناء رجل أعمال قدموا إلى المكتب الاستشاري لرفع دعوى حجر على والدهم في المحاكم الذي كان يبدد أمواله في السفر المتكرر إلى إحدى الدول العربية، والمكوث فيها بالأشهر، والزواج من صغيرات السن، والإنفاق بشكل مبالغ فيه، فضلاً عن شرائه فيلا بمبالغ طائلة لممارسة رغباته في الزواج هناك والطلاق. كما تعاملت مع صاحب أملاك وثروة كبيرة من عقارات مختلفة، ومحال تجارية كثيرة، أتهمه أولاده بأنه مصاب بمرض فقدان الذاكرة الزهايمر من أجل الإرث لينتهي به الحال في إحدى المحاكم بدعوى الحجر عليه من قبل الأبناء. وتعاملت أيضاً مع حالة أب آخر قال في قصته مع أبنائه المتزوجين: عندما شعرت بالوحدة بعد وفاة زوجتي وفراق كل أبنائي، طلبت البحث عن عروس تشاركني حياتي ووحدتي، وعندما علم أبنائي بذلك قاطعوني، ورفعوا دعوى أمام القضاء للحجر عليّ بحجة تبديد الأموال، مرددين أنني سفيه لا أفقه، وفوضوا أخيهم الأكبر للمطالبة بحقوقهم المالية والتصرف بالأموال، ورغم الحكم برفض الدعوى، إلا أنني أصبت بحزن كبير، وما زلت أعاني ذلك حتى الآن. وهناك حالة أخرى رفع فيها 6 أبناء دعوى حجر على أمهم يتهمونها بأنها أصبحت فاقدة الأهلية، وغير قادرة على حفظ الأموال الخاصة بوالدهم المتوفى، وأرفقوا بالدعوى مجموعة من التقارير الطبية من خارج الدولة تثبت صحة دعواهم، ولم يكن لدى الأم المصدومة من أبنائها الستة سوى الجحود، بعدما نجحت في إدارة تجارة زوجها، ورعاية أبنائها منذ صغرهم حتى تزوجوا، إلا أنهم بعد الزواج انقطعوا عنها تماماً، حتى فوجئت بدعوى الحجر التي يتهمونها فيها بالجنون. واعتقد أن السبب في ذلك يرجع إلى افتقاد بعض الأبناء التربية السليمة، وقيم الاحترام وتوقير الكبار، إضافة إلى ضعف التدين لدى جيل الأبناء باعتبار أن إسلامنا يأمرنا ببر الوالدين ويحذرنا من العقوق بهما، كما أن الكثير من دعاوى الحجر تكون من أبناء أنفق آباؤهم أعمارهم في جمع المال من أجلهم، ومع ذلك عاملوهم بجحود. ومسؤولية عقوق الوالدين لا يتحملها الأبناء وحدهم، بل يتحملها الآباء أيضاً عندما يهملون في تربية أبنائهم بالشكل الإسلامي الصحيح، لذا يجب على كل ابن أن يعي أن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر التي نهى الله سبحانه وتعالى عنها، وأن كل منهيات العقوق التي من بينها رفع دعاوى الحجر عليهم، لابد أن يواجهها الشباب العاق عندما يكبر ويصير له أبناء. وأناشد الجهات القانونية والقضائية في الدولة تشديد العقوبة على أصحاب الدعاوى الكيدية لحماية الأسرة والمجتمع، والحفاظ على القيم والتقاليد والروابط الأسرية، كما أن في عدم وجود عقوبة رادعة لطالب الحجر إذا تبين عدم جديته، سبباً أساسياً في ارتفاع نسبة الدعاوى الكيدية، لذا يجب تحقيق التوازن بين رفع دعوى الحجر للفرد، وبين عدم التعسف في الحق، أو إساءة استخدامه، فيما من فوائد تطبيق هذه العقوبة أصلاً إحساس الأب بأن القانون يثأر له من ابنه العاق، ولابد لمن استعجل في أن يرث أباه أن يعاقب بالحرمان مما استعجله. ووقائع الحجر على الوالدين، وانتشارها، وتعدد أشكالها، وألوانها، تدل على انحراف خطر في المجتمعات عن شريعة الله سبحانه تعالى التي جعلت رضا الله في رضا الوالدين، وسخطه من سخطهما، كما في الحديث: رضا الرب في رضا الوالدين، وسخط الرب في سخط الوالدين. والتي جعلت الجنة تحت أقدام الأمهات فلن يدخل الجنة عاق لوالديه، وفي الحديث: ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة والديوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان بما أعطى. التعامل القانوني وعن نظرة القانون لهذه الدعاوى، وكيفية تعامله معها قال المستشار القانوني محمد العويس: جاءت في قانون الأحوال الشخصية الإماراتي نصوص خاصة في شأن الدعاوى التي ترتبط بالحجر من حيث أسباب ودواعي إقامتها، وكيفية إثبات السبب التي تبنى عليه الدعوى والغرض منها، وصفة من يقوم بإقامتها، ويدل ذلك على أهمية تلك الدعاوى لكونها تتعلق بتقييد حرية المراد الحجر عليه في أن يقوم بالتصرف في ما يملك لأسباب حددها القانون وحدد شروطاً خاصة في أسبابها. وحيث إن إقامة مثل تلك الدعاوى تختلف اختلافاً تاماً عن الدعاوى التي تضمنها قانون الأحوال الشخصية الإماراتي لكونها لا ينتج عنها تفكك أسري مثل الطلاق، ولكنها تهدف إلى حماية حقوق وممتلكات من تتوافر بشأنه أسباب إقامة دعوى حجر ضده مثلما جاء في نص المادة (174) من قانون الأحوال الشخصية، وهي حالة إصابة المطلوب الحجر عليه بعارض من عوارض الأهلية، مثل الجنون والعته والسفه وغير ذلك، فبالتالي فإنها تهدف في النهاية إلى حماية ممتلكات وأموال المطلوب الحجر عليه وورثته الشرعيين، لكي لا يقوم أحد ما مستغلاً المرض الذي يعانيه ويستولي على أمواله كلها، أو بعضها، لذا قد يقوم أحد أقارب المطلوب الحجر عليه بإقامة دعوى حجر عليه للأسباب المبينة بالقانون وفوق نص المادة سابقة الذكر، وتقام تلك الدعوى من الأقارب مثل الابن والزوجة، وغيرهما. والسبب الشائع لمثل تلك الدعاوى هو عند بلوغ المطلوب الحجر عليه من العمر عتياً، وأنه يقوم بتصرفات لا تنم على أنه بكامل قواه العقلية، مثل القيام ببيع بعض ممتلكاته بأسعار تقل عن سعرها السوقي بفارق كبير، وبالتالي فقيام بعض ورثته الشرعيين بإقامة دعوى بالحجر يعود لسبب قانوني شريطة أن يوجد دليل قانوني على ذلك، مثل أن يتم الكشف الطبي على المطلوب الحجر عليه من قبل الطب الشرعي بوزارة العدل لبيان الحالة العقلية له، وفي حالة تيقن المحكمة من وجود سبب جدي وقانوني على أن المطلوب الحجر عليه يقوم بتصرفات من شأنها إلحاق بالغ الضرر بممتلكاته، تصدر حكمها بالحجر عليه مع تعيين قيم على أمواله ممن يقيمون دعوى الحجر بناءً على طلبهم، وممن تتوفر فيهم شروط القيم أو الولي، ومنها على سبيل المثال لا الحصر أن يكون بكامل أهليته، وأن يكون بالغاً عاقلاً، راشداً أميناً على أموال المحجور عليه، وللمحكمة أن تقضي بعدم جواز التصرف في أموال المحجور عليه من قبل القيم إلا بعد حصول إذن منها، حرصاً على عدم تعرض أموال المحجوز عليه للضرر، كما أنه في حالة الحكم على أحد ما بالحجر عليه لإصابته بعارض من عوارض الأهلية فله طلب إلغائه حال زوال هذا السبب، ويتم ذلك بالطريقة ذاتها التي صدر بها الحجر عليه، مثل توقيع الكشف الطبي على الحالة العقلية له لتبيان زوال سبب الحجر عليه قبلاً من عدمه. ودعاوى الحجر في الدولة بشكل عام تمثل نسبة ضئيلة جداً مقارنة مع غيرها من الدعاوى التي تضمنها قانون الأحوال الشخصية، مثل الطلاق، والخلع، والمطالبة بنفقات زوجية، ونفقات محضونين. إثبات الأهلية وعن الأسباب المختلفة لرفع دعاوى حجر قال المحامي سعيد سليم إن دعاوى الحجر على أحد الوالدين تعد من الدعاوى المهمة التي يعمد فيها أحد الأبناء، أو مجتمعين على رفعها لدى المحاكم، وقال: الأسباب في ذلك كثيرة، وأولها الطمع والحرص من قبل الأبناء من دون مراعاة لمشاعر الأبوين، لخوف الأبناء على أن يوزع أحد الأبوين الأموال على غيرهم، وبالتالي حرمانهم منها، متناسين أن الوالدين لم يقصرا، ولم يألوا جهداً في رعايتهم عند الصغر، ألم يقل ربنا (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً)، لذلك يتركون أنفسهم للنزعات الشهوانية، وحب جمع الثروة من دون تعب أو كد، وقد يكون السبب الأول والأخير هو الدلال الذي حظوا به من قبل الوالدين، وعدم تحميلهم أية مسؤوليات، وإشعارهم بالفوقية، ما ينجم عنه حرص الأبناء المفرط على الحصول على المال، لأنهم تعودوا على الراحة دونما، مقابل والطلب من دون سؤال. وقد واجهتنا الكثير من هذه الدعاوى في أروقة المحاكم، وكان القضاة في كثير من الحالات يطلبون إثبات عدم أهلية أي من الوالدين المقامة ضدهما الدعوى، لإيقاع الحجر، فيما من أصحاب دعاوى الحجر أبناء ذوي شأن ومناصب في الدولة، والحقيقة ففي حالات كثيرة يقف القانون مع الوالدين، وفي حالات ضيقة يكون مع الأبناء. قوانين رادعة تحمي المسنين وتصون كرامتهم بالنسبة إلى التوعية المجتمعية المطلوبة للحفاظ على الترابط والتماسك الأسري، واحترام كبار السن من الآباء والأمهات، وتجنب تعريضهم لهزات نفسية مسيئة باللجوء للحجر عليهم، أو غير ذلك، قالت فوزية طارش: لابد من تضمين المناهج الدراسية مادة عن التوعية المجتمعية، يتم فيها تنبيه الأبناء لوجوب احترام وتوقير الآباء والأمهات، إلى جانب ضرورة سن قوانين رادعة تحمي المسنين، وتصون كرامتهم. وبالنسبة إلى قضايا الحجر تحديداً، فالمؤسف حالياً هو فراغ التواصل الذي تعيش فيه كثير من الأسر داخل البيت الواحد، فيما يعاني المسن تحديداً من ذلك، لذا فلا بد ومنذ بداية العام الدراسي توعية الطلاب والطالبات ومن خلال برامج عملية بضرورة زيارة دور المسنين، وعلى الجهات الإعلامية بث رسائل توعية عن أهمية التواصل مع كبار السن، والحرص على رعايتهم وبرهم، ومن الأهمية بمكان دمج المسن مجتمعياً، وإشراكه في الفعاليات المختلفة، ولا بد من تعزيز أواصر الترابط والتماسك الأسري في الأبناء منذ الطفولة، وعلى الجهات المعنية الكشف عن الوقائع المسيئة التي يتعرض لها المسنون، لإيجاد حلول لها، بناء على دراسات واقعية عن الدوافع وراء ذلك، وتوضيح الكيفية الصحيحة لمواجهتها. الحجر على أي من الوالدين عقوق كامل رداً على سؤال عن أحقية الابن في رفع دعوى حجر على الأب أو الأم حال فقدان أي منهما الأهلية العقلية، وخشية إنفاقهما المال دونما حساب لفقدان الدراية الكاملة بذلك، قال د. سيف الجابري: الحجر على الآباء أو الأمهات يندرج تحت مسمى العقوق المستتر، لأنه من البر رضاء الوالدين، سواء كانا بكامل قوتهما الجسدية وعافيتهما، أو حال ضعفهما، طالما كانا في كامل قواهما العقلية، لأن المال مالهما، ونتاج تعبهما، وجهدهما، لذا ففي الحجر على أي من الوالدين عقوق كامل. وقد ظهرت في الآونة الأخيرة مسألة الحجر على الآباء، وهذا الفعل غريب على المجتمع، الذي يعمل على شراء راحة ورضاء كبار السن، لذا فالحجر علي أي منهم غير مبرر، فيما وضع الشارع الحكيم ضوابط معينة حال تصرف كبير السن - الذي في وضعية الموت، أو الذي فقد العقل- في ماله، حيث نص على عدم الأخذ أو الإقرار بتصرفاته، أو هباته، فيما بر الوالدين واجب على الأبناء سواء في حياتهما أو بعد مماتهما، والتماس رضائهما ضرورة. وكسر قلب أي من الوالدين بالحجر عليه، له أثر سلبي كبير في حياة الأبناء لاحقاً، حيث إن مات الأب وهو يشعر بالكمد، وقلة الحيلة، والحسرة، وهو لا يملك لنفسه حيلة معهم بعدما حجروا عليه، ولا يستطيع دفع الضرر الذي أوقعوه به سيورثون غضبه، وعدم رضائه، والويل لهم من خالقهم في آخرتهم.