يُفتتح الفيلم الوثائقي «أسماني ملالا» (من إنتاج مُشترك بين أميركا والإمارات وإخراج ديفيز جاجينهايم، عُرض ضمن قسم عروض خاصة في الدورة الأخيرة من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي)، بمشهد لملالا، المُراهقة الباكستانية الشهيرة، وهي في غُرفة العمليات، يُصلي العالم من أجل أن تنجو، يبكي والداها، بينما عبارة واحدة تتردد في الخلفية «أنت السبب في الذي حدث لي». بداية قد تبدو مُفتاحاً لواحدة من القراءات المُحتملة لما حدث في حياة ملالا، لا كبطلة لفيلم تُنتجه هوليوود وتعرف أنه سيُحقق بالضرورة نجاحات هائلة في شباك التذاكر العالمي، بل لملالا الفتاة صغيرة السن التي وجدت نفسها مُناضلة في قضية، محسومة في بلاد أخرى كثيرة، وهي حق الفتيات في التعلم. كل ما أرادته ملالا، أن تذهب إلى المدرسة، هي وزميلاتها، أن يكون لها مُستقبل مُختلف عن مستقبل أمها التي قايضت ذات يوم كُتبها الدراسية بحلوى للأطفال، وأخذت تنتظر في بيت عائلتها حتى تتزوج. تقول ملالا، وهي تتكلم عن حضورها الجديد في مدرسة إنكليزية بإنكلترا: «أنا لا أعرف مَنْ أنا، حين تسألني البنات عن كينونتي». هذا سؤال مُؤرق، وإذا كان مُخرج الفيلم جاجينهايم حاول أن يبني فيلمه، على هذا السؤال تحديداً، سؤال الكينونة، فإن الذي حدث من طول مُلازمة الكاميرا ملالا، هو أن انبثقت أسئلة أخرى، فجاجينهايم، لم يكن عليه أن يبذل أي مجهود، وهو يترك الفيلم يكوِّن نفسه بنفسه، بعد إنصات طويل لملالا. نحو دور في العالم ما الذي ينبغي أن نفعله في هذا العالم؟ ما الأثمان التي يجب ندفعها من أجل أن نُحقق ما نريد؟ كانت ملالا، تحاول أن تقول كلمة ما، في وجه جماعة إرهابية جرَّفت وطناً بحاله، بينما العالم يتفرج على شريط الأخبار، كما سيتفرج على فيلم ملالا، وهو صامت لا يُحرك ساكناً. من بعيد تتحدد صورة والد ملالا التي وجهت له حين أفاقت من التخدير بعد الجراحة الحرجة عبارة تحمل الكثير من الاتهام: «أنت السبب في ما حدث لي». ربما يكون والد ملالا، المُعلِّم والخطيب الذي يُقاتل من أجل الحق، في وطن أسهل ما عنده ذبح البشر، هو المنبع الذي كانت تستمد منه ملالا قوتها، هو مَنْ علّمها أن مستقبلاً آخر يتحقق للبنات اللواتي يذهبنْ إلى المدرسة، هو الذي أسس المدارس السرية لمواصلة تعليم الأطفال، في الوقت الذي كانت تقصف طالبان المدارس بانتظام كي تُحلّ كلمة واحدة هي كلمتها. الأب أيضاً هو الذي منحها الاسم ملالا، استبشاراً بالفتاة الأفغانية التاريخية ملالا التي تمثل أسطورة ما، في قول كلمة الحق. حتى اللحظة الأخيرة، كانت ملالا الأفغانية شُجاعة، لكن الجزء الثاني من الحكاية، كما ترويه لنا مشاهد التحريك في الفيلم، ينطوي على سقوط ملالا، ملالا الأولى دفعت ثمن كلمتها، بموت مُبكر، وبأن تتحوَّل إلى أيقونة، كما سيحدث مع ملالا الثانية وإن بفارق أساسي قبل كلمة النهاية. العذاب قبل المنفى لكن، هل اختارت ملالا بطلة الفيلم هذا المصير؟ تتداخل الأزمنة في الشريط السينمائي، بين طفولة ملالا الهادئة، ثم لحظة ارتفاع صوت الأزمة والصدام مع طالبان، وحادثة الاعتداء، ورحلة العلاج الطويلة في المنفى الإجباري، إذا جاز الوصف، هو نفسه التداخل الزمني الذي ربما يدور في ذهن ملالا الآن، إنها تبدو مثل طفلة بارزت الهواء بالسيف، لكنها سقطت جريحة في النهاية، كان يُمكن ملالا أن تموت، يقول الأب: «لم أتصوَّر أنهم يُمكن أن يقتلوا طفلاً، لقد كان هذا فوق توقعاتي». لكن هذا ما حدث فعلاً، وإذا كانت الحقيقة مُتعددة الوجه، فإن ما حوَّل ملالا، إلى أسطورة عالمية، ربما أكثر شهرة من أسطورة ملالا الأفغانية، هو الألم، لم يكن ألم ملالا، باختيارها، على الأقل هي لم تكن واعية بمقداره في البداية، حين اختارت أن تنهض أمام المُسلح في باص المدرسة وتقول له: «أنا ملالا»، لكن الحياة التي فتحها لها الألم، هي حياة واسعة، أوسع بكثير مما يُمكن أن تحسب له بنتاً في سنها. حياة مُمتلئة بالمشاعر المُتناقضة والمتراوحة، مشاعر الغضب، والتسامح بلا شروط، والتيه الطويل، ووشوك الوصول للذات. وفي النهاية وكما نرى في الفيلم، سواء قررت ملالا أن تختار، أو أنه قد اُختير لها، فإنها من الآن على الأقل ستتحمل عبء بناء الذات الأصيلة، وحدها. وحدها، لكن مع ملايين من أنحاء العالم تابعوا قصتها في الصحافة والإعلام المرئي لسنوات، وها هم قادرون اليوم على متابعتها على الشاشة الكبيرة!