محمد حماد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم أصحابه رضوان الله عليهم الإيمان أولاً قبل تعليم الأحكام، وقد جاءت في تعليم الإيمان قبل الأحكام آثار مشهورة، منها ما رواه جندب بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن فتيان حزاورة، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيماناً. وكان عبد الله بن عمر واحداً من هؤلاء الذين التفتوا إلى منهج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: لقد عشنا برهة من دهرنا وإن أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد - صلى الله عليه وسلم - فنتعلم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها وما ينبغي أن يقف عنده منها كما تعلمون أنتم اليوم القرآن، ثم لقد رأيت اليوم رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري ما آمره ولا زاجره ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه. وفي لفظ عنه قال: إنا كنا صدور هذه الأمة وكان الرجل من خيار أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصالحيهم ما يقيم إلا سورة من القرآن أو شبه ذلك، وكان القرآن ثقيلاً عليهم، ورزقوا علماً به وعملاً، وإن آخر هذه الأمة يخف عليهم القرآن حتى يقرأه الصبي والعجمي لا يعلمون منه شيئاً. أبو المساكين وكان رضي الله عنه وقافاً عند آيات الله، يبكي عند بعضها، يقوم فينفذ ما في بعضها الآخر وكان له أكثر من موقف يروى مع الآية الكريمة: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم) (آل عمران: 29) ، فكان إذا أحب شيئاً أنفقه في سبيل الله، ويروى أنه قال: خطرت هذه الآية فتذكرت ما أعطاني الله فما وجدت شيئاً أحب إلي من جاريتي رميثة فقلت: هذه حرة لوجه الله فلا أعود في شيء جعلته لله ولولا ذلك لنكحتها فأنكحها نافعاً وهي أم ولده، وكان يتصدق بالسكر ويقول: سمعت الله يقول: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم) (آل عمران:29)، والله يعلم أني أحب السكر. ويحكى أنه كان مريضاً فقال لأهله: إني أشتهي أن آكل سمكاً فأخذ الناس يبحثون له عن سمك فلم يجدوا إلا سمكة واحدة بعد تعب شديد، فأخذتها زوجته صفية بنت أبي عبيدة فأعدتها، ثم وضعتها أمامه فإذا بمسكين يطرق الباب، فقال له ابن عمر: خذ هذه السمكة، فقال أهله: سبحان الله قد أتعبتنا حتى حصلنا عليها، وتريد أن تعطيها للمسكين؟ كل أنت السمكة وسنعطي له درهماً فهو أنفع له يشتري به ما يريد. فقال ابن عمر: لا أريد أن أحقق رغبتي وأقضي شهوتي، إنني أحببت هذه السمكة فأنا أعطيها المسكين إنفاقاً لما أحب في سبيل الله. وكان - رضي الله عنه - محباً للخير فعالاً له، وذكر نافع أن ابن عمر كان إذا اشتد عجبه بشيء من ماله قربه لربه، وكان رقيقه قد عرفوا ذلك منه، فربما لزم أحدهم المسجد، فإذا رآه ابن عمر على تلك الحال الحسنة أعتقه، فيقول له أصحابه: يا أبا عبد الرحمن، والله ما بهم إلا أن يخدعوك، فيقول ابن عمر: من خدعنا بالله انخدعنا له. قال نافع: فلقد رأيتنا ذات عشية وراح ابن عمر على نجيب له (جمل قوي) قد أخذه بمال، فلما أعجبه سيره أناخه مكانه، ثم نزل عنه فقال: يا نافع انزعوا زمامه ورحله وجللوه وأشعروه وأدخلوه في البدن، يقصد إبل الصدقة. وكان لا يأكل طعاماً إلا وعلى خوانه يتيم، وكان يصوم ولا يفطر إلا مع المساكين، فإذا منعه أهله عنهم لم يتعش تلك الليلة، وكان إذا جاءه سائل وهو على طعامه أخذ نصيبه من الطعام، وقام فأعطاه للسائل فيرجع وقد أكل أهله ما بقي في الجفنة، فيصبح صائماً ولم يأكل شيئاً. الخاشع الباكي وكان عبد الله بن عمر من البكائين الخاشعين، قارئاً للقرآن، وكلما قرأ: ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق يغلبه البكاء، وكان رقيق القلب، حسن الطباع، لا يسمع ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بكى، وما كان يمر بمسجده وقبره إلا بكى حباً وشوقاً إليه. وترجم له البخاري في باب مناقب عبدالله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - وفيه روى بسنده عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: كان الرجل في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى رؤيا قصها على النبي - صلى الله عليه وسلم - فتمنيت أن أرى رؤيا أقصها على النبي - صلى الله عليه وسلم - وكنت غلاماً أعزب، وكنت أنام في المسجد على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فرأيت في المنام كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، فإذا لها قرنان كقرني البئر، وإذا فيها ناس قد عرفتهم، فجعلت أقول أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، فلقيهما ملك آخر فقال لي لن تراع، فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (نعم الرجل عبد الله، لو كان يصلي بالليل)، فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلاً. لم تفتنه الدنيا، وظل حريصاً على البعد عن فتنتها حتى وافى أجله، زاهداً في الدنيا، مقبلاً على الآخرة، نائياً بنفسه عن المناصب والجاه، طالباً عفو ربه ومغفرته، حتى قال عنه جابر بن عبد الله: (ما رأيت أحداً وما أدركت أحداً إلا وقد مالت به الدنيا أو مال بها، إلا عبد الله بن عمر)، وكان - رضي الله عنه - يقوم الليل، يصلي حتى السحر ثم يقعد ليستغفر حتى الصبح، ولم ينقطع عن هذا من يوم أوصى الرسول المعلم صلى الله عليه وسلم بذلك. ابن أبيه وكان - رضي الله عنه - ابن أبيه، تقياً ورعاً، متبعاً لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عالماً بحديثه، محباً للخير، منفقاً لما يحب في سبيل الله، ولم تكن له جاهلية، فقد أسلم، وهاجر مع أبيه وهو صغير، وعن نافع أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان قد فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف في أربعة، وفرض لابن عمر ثلاثة آلاف وخمسمائة فقيل له: هو من المهاجرين، فلم نقصته من أربعة آلاف؟ فقال: إنما هاجر به أبواه، (أي ليس كمن هاجر بنفسه). وهو - رضي الله عنه - من فقهاء الصحابة، وأحد العبادلة، ابن عباس وابن الزبير وابن عمرو بن العاص وابن عمر، وقد تأخرت وفاتهم حتى احتيج إلى علمهم، فكانوا إذا اجتمعوا على شيء من الفتوى قيل: هذا قول العبادلة. وكان رضي الله عنه من أشد الناس اتباعاً للسنة، وكان يحفظ ما سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويسأل من حضر إذا غاب عن قوله - صلى الله عليه وسلم - وفعله، وكان - رضي الله عنه - يتبع آثار النبي ويقتدي به في جميع أموره، وكان يتتبع آثاره في كل مسجد صلى فيه، وكان يعترض براحلته في طريق رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرض فيه. وشهدت له أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - فقالت: (ما كان أحد يتبع آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - في منازله، كما كان يتبعه ابن عمر)، وقالت: (ما رأيت أحداً أشبه بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين دفنوا في النمار من عبد الله بن عمر). وهو آخر من مات من الصحابة في مكة، عند بعض أهل العلم، وتوفي بعد الحج على أثر جرح أصابه من الزحام عند الجمرة، وذكر الزبير أن عبد الملك بن مروان لما أرسل إلى الحجاج الثقفي ألا يخالف ابن عمر شق على الحجاج ذلك، فأمر رجلاً معه حربة يقال إنها كانت مسمومة، فلما دفع الناس من عرفة لصق ذلك الرجل به فأمر الحربة على قدمه، فمرض منها أياماً ثم مات - رضي الله عنه - ودفن بمكة.