هي السياسةُ تقول بملء فِيها: تعال.. تعال لبطشِي وفَتْكي.. فالسّاقطون في فخِّها هُمُ هُم؛ ذلك أنّها لا تُفرّقُ بين مَن كان منهم صغيراً وَمن هو كبير على النحّو الكاشف الذي لم يُغادروها إلا وقد عَرّتهم بطريقةٍ أثبتَتْ فيه: السياسةُ أنّها هي الكبيرة بينما الآخرون ظلّوا في بحارها المتلاطمةِ: صِغاراً إذ تخوّضوا في لُجَجِها بشروطها لا بواجباتهم!! ما يَعني أنّ: السياسةَ بوصفها ممارسة تبقى: (لُعبة) لا تَقبل أن يُشاركها أحدٌ (الحضور الطاغي) إلا وَفقَ قِسمَتِها الضّيزى. وما من جديدٍ في مثلِ هذه الكتابة وما أُراني أقول إلا مُعادا.. وإنما أدرتُ رحى هذه المقالة ابتغاء أن تَقلّوا اللوم على المتورطين ممن كانوا أعزاءَ قومٍ فأذلتهم السياسة يومَ أن انخرطوا في أزقتها وهم الحفاة. على أيّ حالٍ.. لنأخذ: طه حُسين برهاناً على تباين المواقف المتغايرة بفعلٍ سياسيّ مأزومٍ قد أجبرها أن تأتي في تناقضٍ فجٍّ أظهرتِ السياسةُ خافيه فأبانتهُ على السطح ظاهراً على هذا النحو المُخزي: حين كان طه حسين حرّاً دستوريّاً كتب عن سعد زغلول: (كلّ شيءٍ في حياة سعد باشا العملية والكلامية منذ سنين يدل على أن معاليه يمتاز بالتناقض العنيف الصريح فيما يقول وفيما يعمل: أقوال متناقضة يهدم بعضها بعضاً وبين أعماله وأقواله تناقض ليس إلى فهمه من سبيل. والدستور يُنكره معالي سعد باشا ويراه مضيعا لسلطة الأمة وحقوق الأمة. ثم يُتبع طه حسين قوله: مساكين سعد وأصحاب سعد مساكين لأنهم يدورون في دائرة عرفها الناس وأصبحوا لا يخفى عليهم من أمرها شيء. يجب أن يكون سعد قد انتهى من الضعف السياسي إلى حد لم يعهده من قبل الزعيم سعد يلعب بالأمة نعم يلعب بالأمة وعقائده ويلعب بأنصاره وسامعيه. ويختم طه حسين بالقول: ليس سعد رجل ثورة وليس هو رجل حدث وإنما هو ثرثار سريع الحركة مشعوذ يقوى إن ضعُف خصمه ويذوب إن قوي خصمه). إذن.. فسعد زغلول لم يكن إلا ذلك الثرثار الغارق في سماجته ذلك الذي يلعب على الأمة وبالأمة إذ لم يكن رجل ثورة ولا حدث!! هكذا هو في تقويم طه حسين ورؤيته له..! وما إن مضت سُنيات معدودات وإذ بـ: طه حسين يبدو بجلدٍ آخر غير الذي كان عليه قبلاً وذلك عقب أن انضمّ إلى: الوفد ليكتب عن سعد بنفَسٍ آخر حضرت فيه السياسة وغاب عنه العقل/ والضمير ليكتب مقالةً ضافية تحت عنوان: عظيم!! قال فيه: (لقد أيقظ سعدٌ مصرَ ثم عاهدها على أن سيحول بينها وبين النوم عن الحق ولقد وفّى لها بعهده حيّاً وهو يوفّي لها بعهده ميتاً ولقد جعل نفسه وجعل أمته غُصة للمستعمرين إلى أن يعترفوا بالحق لأصحاب الحق ويوافقوا بالاستقلال لهؤلاء الذين أقسموا وأبروا أن لا يرضوا إلا بالاستقلال..). ما قرأتموها توّاً كان مصدره شخصاً واحداً وهو: طه حسين كلّ ما في الأمر أنّ المقالتين إحداهما كانت في الزمن الذي كان فيه طه منضوياً تحت لواء حزب: الأحرار وحينها لم يكن يرى في سعد زغلول غير ثرثارٍ بصورة إبليس يستحق الرّجم ليلاً ونهاراً!!. ومَن قُدّر له أن يقرأ شيئا من غزل طه حسين في حقّ الملك فؤاد وهجائه المقذع بحقّ: زغلول أدركَ كم هي السياسة: بنت.. إذ أفلحت في جرجرة طه عبر أودية وحوشها وسباعها فابتلع الطّعم وجعلت منه ناباً للسباع ومخلباً للوحوش حتى إذا ما انضمّ إلى: الوفد انتهت رؤيته لـ: سعد وفق مقالته الثانية على أنه قِدّيس لا يصح مقاربة نقده أو المساس بجلالة عظمته!! من هنا يتوكّد لكل العقلاء أن الرّهانَ على: الفقهاء أو المفكرين أو الأدباء رهانٌ على جواد خاسرٍ إذا ما تدنّسوا بملوثات السياسة وتشبّعوا بما لم يُعطوا من فهمها! ذلك أنّ مَن كان كذلك فلا ريب أن سيُصبح مؤمناً بالشيء ويُمسي به كافراُ بحسبانه يدور مع: السياسة حيثما دارت كلّ ذلك يأتي على حِساب الأمانة والذمة والقيم التي يؤمنون بها لمّا أن كانوا في الخارج من السياسة.! ولو أنّي تمكنتُ من آذان هؤلاء (الفقهاء والمفكرين والمثقفين والأدباء) لقرصتها لهم ثم صحت فيها: فرّوا من: السياسة فراركم من المجذوب.! نقلا عن الشرق